ترك برس
شيدت قاعدة إنجرليك الجوية في عام 1955 بدعم من الولايات المتحدة، وصارت أهم قاعدة لحلف شمال الأطلسي في الجناح الجنوبي خلال الحرب الباردة. وعلى مدى أكثر من 60 عاما، كانت القاعدة رادعا أمام التوسع السوفيتي المحتمل، وأثبتت أهميتها في التعامل مع مختلف الأزمات في الشرق الأوسط.
ووفقا لنظرية الجزيرة العالمية لهالفورد ماكندر، فإن من يسيطر على قلب الأرض "Hearsitet Land " يسيطر على الجزيرة العالمية (آسيا، وأوروبا، وأفريقيا)، ومن يسيطر على الجزيرة العالمية يسيطر على العالم كله. وتحقيقا لهذه الغاية، أدى إصدار مبدأ ترومان 1947 إلى توسيع العلاقات الدفاعية بين الولايات المتحدة وتركيا، وأرسى الطريق لإدماج تركيا في الناتو.
وترجع أهمية تركيا الاستراتيجية للولايات المتحدة في أنها توفر جسرا للعالم العربي وتعمل كقوة استقرار في الشرق الأوسط، وبالتالي، فإن استمرار الوصول إلى قاعدة انجرليك الجوية ما يزال عاملا مهما للحفاظ على المصلحة الوطنية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير.
تعد القاعدة عاملا مهما في العلاقات التركية الأمريكية من اجل إدارة التطورات الجيوسياسية فى الشرق الأوسط. وفي 21 شباط/ فبراير 1955، أطلق عليها رسميا قاعدة أضنة الجوية، ثم أعيد تسميتها باسم قاعدة إنجرليك الجوية في 28 فبراير 1958. وبإنشاء هذه القاعدة تشكلت جبهة الدفاع المتقدمة ضد تهديد التوغل السوفياتي المحتمل لتركيا من الجنوب. وكان من بين الأسباب المهمة لإنشاء الجناح الجنوبي الحفاظ على الموارد النفطية في الشرق الأوسط وتمهيد الطريق أمام "تحالف المحيط" لتوسيع مجال نفوذه بحيث دفع انضمام تركيا إلى حلف الناتو جبهة التحالف إلى الشرق وبعد إنشاء إسرائيل صاغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون مصطلح تحالف المحيط.
ويطلق التحالف على إسرائيل اسم الدولة العلمانية الديمقراطية في الشرق الأوسط، من أجل تطوير تحالف استراتيجي وثيق مع تركيا والولايات المتحدة من أجل التصدي للنظام العربي المؤيد للسوفييت. ومن وجهة النظر العسكرية والاستراتيجية فإن العمليات العسكرية التي تنطلق من قاعدة إنجرليك الجوية تمثل سلام أمريكا أو قوة أمريكا العظمى لحماية الديمقراطية والاستقرار والموارد النفطية في الشرق الأوسط. على أن الحروب الأهلية التي اندلعت في السنوات الأخيرة في بعض الدول العربية في الشرق الأوسط وظهور الحركات الإرهابية، مثل داعش والقاعدة شكل تحديا للتكوين السياسي الحالي للمنطقة وسيادة الحكومات العربية المركزية.
ويرى المحلل الأمني والاستراتيجي التركي، محمد بيلديك، أن استعادة نظام سايكس بيكو القديم أمر بالغ الصعوبة. وبدلا من ذلك، وفي ضوء الحقائق الدينية والعرقية المختلفة في المنطقة، يحتاج الشرق الأوسط إلى نظام جديد يخلق جدوى سياسية واقتصادية، باستحداث تشكيلات سياسية جديدة مثل الاتحاد/ الكونفدرالية في المنطقة. وسيكون من غير المجدي أيضا افتراض أن بعض القوى الإقليمية التي تقاتل في الشرق الأوسط سوف تكون راضية عن العودة إلى الوضع السابق. وتحقيقا لهذه الغاية، تعد تركيا الدولة القوية في الناتو في التي تحارب إرهاب حزب العمال الكردستاني عاملا مهما في تسوية الحروب الأهلية في البلدان العربية، والتي ستحدد مصير الشرق الأوسط.
في تموز/ يوليو 2015، أطلقت تركيا حملة عسكرية على حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة في سوريا، وهو ما يعد أول تدخل عسكري لتركيا في الحملة التي تقودها الولايات المتحدة على داعش. وقد وصف قرار أنقرة فتح قاعدة إنجرليك الجوية للطائرات الأمريكية بأنه "تغيير اللعبة" فى جيوبوليتيك الشرق الأوسط. دفعت عمليات داعش في الشرق الأوسط الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الموافقة على فتح القاعدة للعمليات العسكرية، لكنه قال إن استخدام الولايات المتحدة للقاعدة سيكون "ضمن إطار معين".
زادت أهمية إنجرليك في الحملة التي قادتها الولايات المتحدة على تنظيم داعش وعرفت باسم "العزم الصلب"، وخلالها كانت الطائرات الألمانية تزود بالوقود، وتجمع المعلومات الاستخباراتية وتوجه ضربات جوية انطلاقا من القاعدة. ولكن إسقاط المقاتلات التركية طائرة عسكرية روسية دخلت المجال الجوي التركي في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، أثار غضب موسكو وأدى إلى قرار روسيا نشر صواريخ S-400 المتقدمة في سوريا. ولذلك استجابت ألمانيا استراتيجيا بنشر طائرات استطلاع تورنيدو في القاعدة، و1200 جندي للإشراف على الطائرات. ولكن بعد انتشار القوات الألمانية وقعت حادثة إسقاط الطائرة الروسية انطلاقا من إنجرليك، وهو ما رأته إسرائيل خطأ من جانب ألمانيا، وأدى ذلك إلى تدهورت العلاقات بين إسرائيل وألمانيا والولايات المتحدة.
ووفقا للمحلل التركي فإن الحادث الإرهابي الذي وقع في إسطنبول في آذار/ مارس 2016 وقتل فيه ثلاثة إسرائيليين أثبت من جديد أن الوجود العسكري الألماني في قاعدة إنجرليك الجوية كان عديم الفائدة في الحرب على داعش وأدى إلى تغيير السياسة الخارجية التركية تجاه ألمانيا. وعلاوة على ذلك جاءت استقالة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو الذي كان يتمتع بعلاقات جيدة مع ألمانيا لتعزز موقف الرئيس رجب طيب أردوغان كزعيم سياسي على طريق النظام الرئاسي. ولذلك فقد تطور النظام السياسي التركي في حد ذاته من خلال إزالة تأثير ألمانيا على قانون الإعدام التركي الذي أثر على العلاقات بين المدنيين والعسكريين.
وقد مهدت المواجهة السياسية بين إدارة أوباما وإسرائيل بسبب الاتفاق النووي مع إيران، الطريق لمحادثات التطبيع التركية الإسرائيلية في رد على التحرك السريع الذي قامت به الولايات المتحدة في الموصل مما يعني أن الولايات المتحدة تغلبت على الصين في هذه الرقعة الاستراتيجية من العالم. في هذه المرحلة، شكلت تركيا وسوريا والموصل الجزء الشرق أوسطي من طريق الحرير الصيني والموصل في وسطه. وأدى ذلك إلى استثمارات البنية التحتية في تركيا التي تشكل جزءا حيويا من الاستراتيجية الجيولوجية العالمية، مثل المطار الثالث في إسطنبول، وجسر البوسفور الثالث، وجس الدردنيل المعلق، والأنفاق البحرية تحت بحر مرمرة. وبعد فشل الانقلاب فى تركيا، لم يسمح للمشرعون الألمان بزيارة الجنود الألمان فى قاعدة إنجرليك الجوية فى الناتو، الأمر الذي أدى إلى أن تبدأ برلين فى نقل قواتها المتمركزة فى تركيا إلى الأردن. وهذا يعني أن ألمانيا خسرت تأثيرها على اللعبة الجيوسياسية في الشرق الأوسط، كما يقول ديليك.
وكان لتحرير الموصل من داعش وانسحاب ألمانيا من قاعدة إنجرليك تأثير كبير في تراجع داعش على الأرض مما أدى إلى تطورات جيوبوليتيكية مهمة في الشرق الأوسط. أولها أزمة سياسية ودبلوماسية ظهرت بين قطر والمملكة العربية السعودية، وهي الدول التي تقدم الدعم لجماعات المعارضة المسلحة في سوريا، والتطور الثاني هو استفتاء إقليم شمال العراق وانقسام العرب إلى معسكرين وهو ما يشكل تهديدا للأمن الوطني التركي. ومن ناحية أخرى دفع استفتاء انفصال إقليم شمال العراق الحكومة التركية إلى تعزيز العلاقات مع إيران وروسيا بشأن سوريا، وهو ما دفع أكراد العراق إلى مزيد من الاعتماد على إسرائيل. ووجدت تركيا فرصة لبدء عملية واسعة النطاق في إدلب من خلال التعاون مع روسيا تحت رعاية عملية أستانا.
ويخلص المحلل التركي إلى أن الشرق الأوسط سيحتاج بعد انتهاء تركيا من عملية إدلب إلى قيادة أمريكية لتحقيق التوازن ضد إيران وروسيا، مشيرا إلى أن إيران استفادت سرا من استفتاء الأكراد، وتسعى إلى الحفاظ على نفوذها في العراق ولا تريد العمل مع حكومة حيدر العبادي في بغداد وهذا يتطلب استعادة العلاقات التركية الأمريكية بشكل عميق.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!