د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس
عندما نشبت الحرب في طرابلس الغرب سنة 1911م بسبب الغزو الإيطالي أسرع عدد من الرّجال العثمانيّين إلى ميدان القتال عن طريق مصر وتونس لترتيب وسائل الدّفاع هناك، وقد كان في طليعة من ذهبوا عن طريق تونس الوطني الكبير رحمي بك مبعوث الآستانة السّابق، وأحد كبار رجال جمعيّة الإتحاد والترقّي، وقد مكث في تونس نحو ثلاثة أسابيع، وخالط أهلها واطلع على ما يقدّمونه من دعم لأهالي طرابلس الغرب، والجنود العثمانيّين هناك.
وبعد أن عاد من ساحة القتال أخذ يخطب في أهالي سالونيك، ويصف ما شاهده في طرابلس الغرب، وتحدّث كذلك عن الدّور المحوريّ الذي قام به التّونسيّون في دعم اللّيبيين في محنتهم سواء من حيث توفير الدّواء أو الغذاء. وقد نقل لنا المفكّر المصري المعروف عبد العزيز جاويش هذه الخطبة إلى اللغة العربيّة ونشرها في كتابه "العالم الإسلامي" الصادر باستانبول عام 1912م عن مطبعة "توسيع طباعت".
يذكر رحيم بك أنّه دخل إلى طرابلس الغرب من جهة البلاد التّونسيّة، وهناك استطلع أخبار الحرب والوضع في طرابلس الغرب عن طريق التّونسييّن " ولمّا وصلنا إلى تونس ألفينا من سكّانها إخواننا المسلمين من شرح لنا حالة وموقف جيشنا بميدان القتال، ولقد أُخذ الجيش على حين غِرّة منه بدون أن يستعدّ لعدم توقّع أحد اِنقضاض إيطاليا فجأة كاللصّ".
ويبيّن رحمي بك أنّ هذا الهجوم المباغت للإيطاليين على طرابلس الغرب لم يترك للحُكومة العثمانية فرصة لإرسال الأغذية والمؤن الكافية، ولذلك فقد تعرّض النّاس في البداية لضيق شديد "وهُنا تجلّت حميّة ومكارم إخواننا التّونسيين الأمجاد، فرأيناهم بدون أيّ مُشّوِق تَدفعهم غيرتُهم الدّينية إلى بذل ما تملكهم أيديهم وعمل كل ما في استطاعتهم لمعاونة جيشنا".
ولم تقتصر مساعدات التّونسيين لأهالي طرابلس الغرب وللجنود العُثمانيين على مدّهم بالطعام والغذاء، فعندما ظهر الوباء وانتشر المرض بين الجنود العثمانيّين، وليس بينهم أطباء، ولا توجد بحوزتهم أدوية لم يتأخر التّونسيّون في القيام بما عليهم من واجب تجاه إخوانهم وجيرانهم، وهنا يقول رحمي بك في شهادته في الجَمع الذي يخطب فيه في سَالونيك: "لقد كان الوباء يهدّد الجند بالفتك بهم بينما هم مجرّدون من العلاج والطّبيب المُداوى، ولكنّ كرم إخواننا التّونسيين حال دون ذلك، إذ أبصَرنا الطّبيب منهم يهرع لمساعدة إخوانه المجاهدين في سبيل الله والوطن. ورأينا الخيّرين يتسابقون في إرسال العَقاقير ومُختلف الأدوات الكيماويّة والطّبية، ويمدّون الجيش بوافر الغذاء وبذلك نجا الجَيش من الضّائقة".
وقد سعى التّونسيّون كذلك إلى تقديم الدّعم المعنوي وتشجيع كلّ من يمرّ ببلادهم قاصدًا طرابلس، ويبثّون فيه العَزيمة "فيُشيّعونه بكل حفاوة وإكرام إلى آخر حدود بلادهم".
ويشير رحمي بك أنّه مكث بين التّونسيين في تونس ثلاثة أسابيع، وخالطهم ورأى مدى صدقهم وإخلاصهم وغِيرتهم على أرض طرابلس الغرب العثمانيّة. ولقد تغيّرت فكرته عن هذا الشّعب، فلم يكن يعرف سابقًا أن مشاعره مازالت متصلة إلى ذلك الحين باستانبول، مركز العَالم الإسلامي رغم مرور نحو 30 عاما على الاحتلال الفرنسي للبلاد التّونسية، هذه البلاد التي غزاها الفرنسيّون عام 1881م وحاولوا تغيير ثقافة شعبها وزرع قيم جديدة، لكنّ جهود الاستعمار الفرنسي لم تفلح في تحقيق هذه الغاية وذهبت سدًى: "ولكنّي بعد أن زُرت تلك البلاد، واطّلعت على إحساس أهلها بدّلت اعتقادي تمامًا وأصبحت أدين بأنّ قوتنا في الاتّحاد الإسلامي، وإن شئنا أن نُظهر في العالم قوّتنا وبأسنا فلنجهر دائما بضرورة البحث في الاتّحاد الإسلامي، ولنشجّع هذه الحركة صراحة بكل قوانا".
لقد كانت هذه الحرب الطرابلسيّة مناسبة ظهرت فيها حقيقة الشّعب التّونسي ومدى التزامه بقضايا أمّته الإسلاميّة، وهنا يورد رحمي بك تأكيدًا لتوحّد مشاعر التّونسيين وإدراكهم لحقيقة ما ينبغي عليهم عمله في مرحلة حاسمة من مراحل تاريخ الأمّة الإسلامية، والأمر كذلك بالنّسبة إلى الجزائريّين الذين اُغتُصبهم بلادهم منذ عام 1830م: "إنّ الإنسان لا يجدُ تونسيّا واحدًا يختلف عن أخيه في ضرورة إخلاصه وحبّه ومكين تعلّقه بعرش الخلافة العظمي. إنّ جميع التّونسيين متّحدون في هذه النقطة تمامًا، وهم مع اعترافاتهم بإصلاحات فرنسا لا يرون ضرورة تمنعهم من الجهر صراحة برأيهم في محبّتهم لنا، وقد سمعت ورأيت نفس هذا الشّعور بين الجزائريين الذين خالطتهم بتونس، فأهالي هاتين المملكتين على أتمّ استعداد للقيام بكل تضحية عند اللّزوم".
إنّ العلاقات بين الشّعب التّونسي والشعب اللّيبي عميقة وراسخة، وفي مراحل الأزمات والصّعاب وقف كلّ شعب إلى جانب الشّعب الآخر وآزره بما يملك. وما قدّمه التّونسيون من دعم مادي ومعنويّ لأهالي طرابلس الغرب في الحرب العثمانية الإيطالية هو بشكل مّا ردّ جميل لهذا الشّعب لاستقباله وإيوائه نحو 50 ألف تونسيّ اضطرّوا للهجرة إلى طرابلس الغرب عام 1881م بسبب مظالم فرنسا وقسوتها. هذه المحطات النّاصعة في حياة الشّعوب تمثّل ضمانة لتلك الرّوابط الأخوية القويّة بينها، فلا تقدر عوامل السّياسة على إفسادها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس