محمد حسن القدّو - خاص ترك برس
كانت وما زالت تركيا تشكل المركز الأساسي للسياسة الخارجية في المنطقة، وهذا في الحقيقة سببه، الدور الإيجابي الذي لعبته وتلعبه تركيا في التطورات الحاصلة في الشرق الأوسط، لهذه أصبحت تركيا فعليا من الأطراف الدولية المؤثرة على المستوى الإقليمي، والتي أصبح لها دور كبير في المنطقة برمتها.
ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، دخلت تركيا فجأة مرحلة جديدة في سياستها الخارجية، فقد حسّنت العلاقات الإقليمية مع الجميع وبكافة الاتجاهات والأبعاد وهذا الانفتاح الواسع لتركيا على محيطها الإقليمي والعربي والإسلامي منحها فرصة أفضل للتعبير عن هويتها الحضارية ذات الجذور التاريخية العريقة، وكذلك تطلعات الشعب التركي مستمدة من التاريخ المشترك والمقومات الثابتة والأهداف المشتركة ممّا سهّل عليها احتمالات لعب أدوار سياسية بهذه المقومات الثابثة والأصيلة، إضافة إلى ذلك أنّ السياسة الخارجية للدولة التركية، والتي أوصلتها إلى هذه المكانة الهامة على الصعيد الدولي، تعتمد على حقيقة واحدة، هي أن تركيا دولة متطورة وديمقراطية، ولهذا استطاعت تركيا تجنب كل الأمور السلبية والضرر الناجم عن المشاكل الكبرى التي حصلت حولها، وهي تسير بثبات نحو دولة مستقرة وقوية على كافة الأصعدة .
تبنّى قادة حزب العدالة والتنمية كثيراً من القضايا الإقليمية المصيرية وخصوصا القضايا العربية والإسلامية بدءًا بقضية فلسطين والأراضي المحتلة وحصار غزة الاقتصادي اللاإنساني بالإضافة إلى منع القوات التركية من الدخول في حرب العراق واحتلالها عام 2003 أو انتهاء بتأييدهم للربيع العربي، حتى أنّ قادة الحزب أرادوا تحويل هذه القضايا الإقليمية إلى قضايا داخلية تركية. وبالفعل فإنّ هذه القضايا بدأت تتناقش داخل أروقة البرلمان وكأنّها قضية تركية بحتة والمدهش في الأمر أنّ الأحزاب التركية المعارِضة لم تُنكِر الاهتمام الحكومي التركي بالقضايا المذكورة بل كان الاختلاف حول طريقة التعامل حول هذه القضايا أو حتى لبطأ الدور الرسمي التركي في تأييد بعض المتطورات في المنطقة كما حدثت مع مصر أيام الانتفاضة في مراحلها الأولى.
لا يأتي الاهتمام الشديد بقضايا المنطقة جزافاً من الجانب التركي بل إنّ هناك كثيراً من المعطيات التي تحتم على الجانب التركي أن يكون مسؤولا مباشراً عن قراءة هذه القضايا ومعالجتها فهي تعيش الواقع والقضايا والتجاذبات السياسية غير البعيدة عن حدود البلد تركيا.
وهناك جملة من الأمور التي تضع الدور التركي على المحك وهي:
أولاً: تركيا بلد إسلامي وقضية القدس والمسجد الأقصى أولوية تاريخية بالنسبة لها.
ثانيا: طموح تركيا في إقامة أرقى العلاقات مع الدول العربية وخصوصا مع الدول ذات الدور الريادي مثل السعودية والتي تطمح تركيا إلى تقويتها كما تطمح إلى إقامة علاقة مصيرية مع الاتحاد الأوروبي وكما صرح بذلك رئيس الوزراء التركي آنذاك عام 2010 عند زيارته إلى السعودية.
ثالثا: التخوف التركي من الدور المتزايد للنفوذ الإيراني في بعض الدول العربية والذي يؤثر بصورة مباشرة على استقرار المنطقة لأن إيران تتدخل بشؤون المنطقة بستارالمذهبية والتي من شأنها تأجيج الصراعات الطائفية في المنطقة والتأثير على استقرار تركيا بصورة مباشرة.
رابعاً وأخيراً: تأخذ تركيا بنظر الاعتبار أن يكون لها دور استراتيجي مركزي لا أن تكون طرفاً جديداً مضافاً إلى الأطراف العربية. بسبب فقدان الثقة لدى الشعوب العربية بحكامها من جراء سلسلة الهزائم الشعبية والمصيرية في تطلعاتها (تطلعات الشعب العربي)، وكما أنّ معظم الحكومات العربية لم تستلم السلطة بصورة ديمقراطية شرعية وهي السبب الرئيس في وهن الإرادة السياسية، وأنّ الوقوف بجانب هذه الحكومات بمثابة الإفلاس السياسي للحكومة التركية.
كانت السنوات الاثني عشر الماضية بمثابة سنين التعارف بين الدول العربية والإرادة الوطنية التركية بتوجهاتها الجديدة في السياسة الخارجية وكذلك الإنجازات التركية على المستوى الداخلي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وفي شؤون السياسة الداخلية.
وإذا ما استمرت عجلة التقدم بصورة ثابتة ومطّردة في الداخل التركي واستمرت معها المواقف التركية المسؤولة حول مستجدات الأوضاع في المنطقة فإن السنين القليلة القادمة ستحقق أرقى الإنجازات للجانب التركي وهي أن تصبح تركيا بمثابة مرآة عاكسة للرأي العربي والإسلامي في العالم.
من هو المبادر لتمتين العلاقات تركيا أم العرب؟
من المعروف أنّ العقود السابقة مرّت على البلدان العربية وهي تصارع الدوامات الأيديولوجية الدخيلة عليها والتي أدّت إلى خلق كثير من الاضطرابات السياسية والاجتماعية والتي غالبا ما تنتهي بالعنف الدموي وكانت تهدد في بعض الأحيان كيان الدولة بصورة عامة أو كانت تنتهي بالحرب الأهلية في أحيان أخرى، وأقسى ما في الأمر أنّ المتصارعين كانوا موالين للدول المصدرة لهذه الأفكار أكثر من موالاتهم لأوطانهم، وبصيغة أخرى هو انعدام شعور المواطنة لدى الكثير من حاملي هذه الافكار.
كما أنّ القراءة الأولى لكل هذه المصائب تعطي انطباعا أكيدا بأن الجتمع العربي مجتمع لا تزال تطغى عليه صفة المجتمع غير المتمدن وأنّ أولى إفرازاتها هي عدم قبول رأي الآخر والذي يؤدي بالنتيجة إلى بدء العنف السياسي. ولهذا فإنّ حكومات الدول العربية تقاوم أي فكر جديد على الساحة السياسية والاجتماعية.
إنّ الفكر الإسلامي التركي المطروح بين الأوساط الشعبية والرسمية قد يُفهم على أنّه فكر سياسي جديد بسبب التعريف السياسي لهذا التوجه، وبرغم الهالة الإعلامية والتأويل للإسلام التركي، فإنّه ببساطة يجب أن يُفهَم بأنّه يمنع أن يتحول الجانب الروحي للدين الإسلامي إلى ما يُشبِه العقيدة المقيدة والطاغي عليها أسلوب الهيمنة السياسية لأي جهة من الجهات لمصلحتها الخاصة وبهذا يتحول الدين إلى مركب ثابت غير متحرك في مكانه يكون سببا في توقف عجلة الحياة وهو ما يتهم به الإسلام جزافا.
إذاً يعني القبول العربي لتركيا قبول أمرين:
أولا: قبول الفكر الإسلامي التركي.
ثانيا: قبول الدولة التركية ككيان حضاري يدافع عن الثوابت العربية والإسلامية.
يصطدم قبول الفكر الإسلامي التركي بالثابتين المتأصلين في البلدان العربية ألا وهما التشدد الاسلامي السائد والعلمانية غير المعلنة في كثير من الدول العربية كتونس والجزائر وغيرها والعلمانية في هذه الدول لا تعني الملائكية بالمعنى الشمولي لها ولا تعني فصل الدين عن الدولة في قسم من مرافق الحياة بل كانت عبارة عن التقليد الأعمى للأفكار الغربية ومنها الفرنسية على الأغلب وأكثر هذه التوجهات تتدخل بها الإرادة السلطوية للدولة، ولا يغب عن بالنا أنّ الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة كان قد قال لموفد الرئيس التركي سابقا بأنه يتحذر من قرار أتاتورك بإعلانه لتركيا كدولة علمانية بل والقول للرئيس بورقيبة كان على أتاتورك أن لا يعلن علمانية الدولة لكن يطبق العلمانية للدولة بصورة غير معلنة.
وبما أنّ الدولة التركية قد قطعت أشواطاً في عملية البناء الصناعي لمختلف الصناعات ومنها الصناعة العسكرية المتطورة وتنامي القوة العسكرية والتقدم الاقتصادي الكبير ومكانة تركيا بين الدول وتفاني قادة حزب العدالة في الدفاع عن الشؤون الإنسانية العالمية، كل هذا جعل تركيا مرحباً بها بحرارة عندما أعلنت الانفتاح على جيرانها العرب، وإنّ ما يدّعيه البعض ومنهم الدكتور عزمي بشارة من أنّ الفراغ العربي هو الذي أدّى إلى الترحيب الحار بتركيا في الوسط العربي هو منافٍ للحقيقة تماما، لأنّ الدكتور بشارة يدرك تماما أن السياسة العربية لم تكن في يوم من الأيام معزولة بالمصلحة والإرادة عن مصلحة وإرادة الدول العظمى، وإنّ مصلحة الدول العظمى كانت أولى من المصلحة الوطنية أحيانا لبعض الدول العربية وخير مثال على ذلك هي مسألة تسويق النفط وأسعارها. وأنّ الدول العظمى لم تترك الساحة العربية تعاني من الفراغ لدرجة أن تكون لقمة سائغة لكل من هب ودب، والذي يعتبر الشريان الحيوي الذي يغذي ديمومة الحياة الغربية، ولهذا نكرر القول بأنّ تركيا رحبت بها بسبب الفراغ السياسي الذي تركه الغرب يعطي انطباعا بعدم أهمّية المنطقة على الإطلاق.
وبما أنّ الجانب التركي كان قد بدأ بالمبادرة في تحقيق أفضل العلاقات مع محيطه العربي فإنّنا نتيقّن من أنّ الشعب العربي هو الذي سيضع تطوير هذه العلاقة نصب عينيه بل سيقاوم أي شكل من أشكال تهميش أو إلغاء هذه العلاقة من قبل جهات أو حتى بعض الحكومات العربية بل إنّه يراهن على هذه العلاقة والإنسان العربي يؤمن بأنّ هذه العلاقة إيجابيه وضرورية وتقود إلى مستقبل إيجابي وخصوصا بعد سرقة منجزات ربيع الثورات العربية وإعطائها بُعدًا مغايرًا لما بدأت به ولأنّ العالم العربي لا يزال يعيش تحت رحمة حكومات أتخِمت بالفساد السياسي حتى أصبح مسلوب الإرادة لا يملك من إنسانيته ما يميزه كإنسان، علاوة على سحقه بالجانب الاقتصادي في بلدان تطفو على كنوز من الثروات بل وإنّ أقسى ما يواجه الإنسان العربي هو عدم رؤيته لأي ضوء في نهاية النفق وإنّ أبواب التفاؤل مقفلة في وجهه والتشائم مستمر معه الى ما لا نهاية.
في المقابل يرى أنّ تجربة امتدت لعشر سنوات قد حولت دولة مديونة إلى دولة دائنة وزادت دخل الفرد ثلاثة أضعاف وأصبح إسعاد الإنسان وخدمته هي الغاية المبتغاة.
إذاً التجربة التركية لا بدّ أن تتكرر ولا بد أن تُحتَذى، والمواقف التركية حول القضايا العربية المصيرية في المحافل الدولية كانت أسبق وأقوى تأثيراً وفعالا في بلاد تعاني الوهن والضعف وانعدام الإرادة والانقسام الأيدلوجي لا بُدّ من أن تُمدّ يدُها إلى تركيا باعتبارها اليد التي قد تنتشل الغريق على أقل تقدير.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس