سمير صالحة - العربي الجديد
بدأت القيادات السياسية التركية تعلن موقفها الواضح من التطورات في الداخلالإيراني، بعد تريّث استمر حوالي الأسبوع. فكان الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس، رجب طيب أردوغان، بنظيره الإيراني، حسن روحاني، وتصريح الناطق باسم رئاسة الحكومة التركية، بكير بوزداغ، ثم موقف وزير الخارجية التركي، مولود شاووش أوغلو. وبمتابعة هذا كله، نفهم باختصار أن أنقرة تقف إلى جانب القيادة السياسية الإيرانية في أزمتها هذه، مع ضرورة احترام ما يقوله الشارع وتفهّمه. وترفض أنقرة أي تدخّل خارجي في الأزمة، لكنها ترفض أيضا استخدام القوة ضد المتظاهرين.
باختصار أوضح، اختارت غالبية القيادات السياسية، وصنّاع الرأي في الإعلام، ومراكز الأبحاث والجامعات التركية، الوقوف إلى جانب الحكم في إيران، والتضامن معه، في وجه موجة الاحتجاجات التي تعصف بالبلاد منذ أيام، شرط عدم اللجوء إلى العنف والقمع، ومحاورة المحتجّين بأسرع ما يكون.
هل يمكن القول إن هذه المواقف التي تدعو إلى تغليب الحكمة، للحيلولة دون تصاعد الأحداث، وتحذّر من التدخلات الخارجية، وتدعو إلى تهدئة الأجواء، ستكون كافية بالنسبة لأنقرة وسياستها الإيرانية؟ تقول أنقرة إنها "تولي أهمية كبيرة للسلم الاجتماعي، والاستقرار في إيران الصديقة والشقيقة"، فهل يعكس ذلك الموقف النهائي للقيادة السياسية التركية إزاء التطورات السياسية والأمنية في المدن الإيرانية؟
لا تريد تركيا أن تعامل إيران بالمثل، حيث لم يتردّد الإعلام الإيراني، أو المحسوب عليه، و "التزاما بنقل المعلومة والمتابعة الدقيقة" المباشرة لأحداث "غزي بارك" التي اندلعت في إسطنبول قبل أربع سنوات، في نقل معلومات غير صحيحة، عن سقوط قتلى، وانتقال الربيع العربي إلى تركيا. وأنقرة ملزمة برد الجميل إلى طهران، بسبب موقفها الداعم للحكومة بعد ساعات على اندلاع المحاولة الانقلابية في منتصف يوليو/تموز 2016، والمبادرة بإرسال وزير خارجيتها إلى أنقرة، ليأخذ مكانه في الصف الأول للمهنئين والمؤيدين لحكومة "العدالة والتنمية" بعد إطاحتها بالمحاولة.
ثم هناك التنسيق التركي الإيراني في الوقوف إلى جانب قطر في موضوع الأزمة الخليجية الذي قرّب بينهما أكثر فأكثر. هذا إلى جانب التفاهمات التركية الإيرانية الجديدة في الملف السوري، تحت سقف أستانة، وفي إطار خطط مناطق تخفيض التوتر.
قد لا تعترض القيادة السياسية التركية على خضّات سياسية في الداخل الإيراني، تضعف موقع إيران ودورها الإقليمي، وتدفعها إلى الشعور أكثر فأكثر بحاجتها إلى أنقرة، وسط هذه الظروف الصعبة، كما حدث مع تركيا في العامين الأخيرين. لكنها تعرف تماما أن عليها أن تأخذ في الاعتبار حسابات خط الرجعة في علاقاتها مع إيران، وعدم التسرع في تحديد موقفها، والانحياز إلى جانب الشارع الإيراني، خصوصا إذا ما فشلت في رهانها وتقديراتها، ما يعرّض ما بنته من علاقات استراتيجية مع إيران في الأعوام الأخيرة للانهيار.
ليست تركيا أميركا أو روسيا، لتعلن باكرا موقفها الحاسم والنهائي حيال انفجار المشهد الأمني والسياسي في الداخل الإيراني، فعلاقاتها متشابكة متداخلة مع طهران، ولها أكثر من خصوصيةٍ لا بد من أخذها في الاعتبار، عندما تقرر إعلان موقفها النهائي، حيال ما يجري هناك، وهي ستأخذ في الاعتبار جملةً من المعايير والمسائل الحساسة، أبرزها:
ـ على الرغم من تعارض المصالح التركية والإيرانية، وتباعد المواقف في التعامل مع ملفات ثنائية وإقليمية كثيرة، إلا أن أنقرة وطهران بنتا تحالفاً يراعي تراتبية المصالح الأمنية في مواجهة المساس بوحدة الدول وسيادتها، والتصدي لخطط التفتيت الإقليمي، ثم حماية مسار العلاقات التجارية والاقتصادية، وبعدها تأتي القضايا السياسية في تقاطع العلاقات بين البلدين.
ـ القلق من تدهور الأوضاع الأمنية والسياسية في المناطق الحدودية التركية الإيرانية التي قد تفتح الطريق أمام موجات لجوء باتجاه الداخل التركي، ما يترك أنقرة أمام مشكلة توفير احتياجاتهم ومتطلباتهم الحياتية، إلى جانب وجود مئات الآلاف من اللاجئين السوريين والعراقيين فوق الأراضي التركية.
ـ ارتباط الموقف التركي حيال ما يجري في إيران بمواقف إيران نفسها في التعامل مع ملف الأزمة السورية الذي يغضب المعارضة السورية، ويترك أنقرة أمام مشكلة إرضاء حليفها، وعدم تعريض علاقاتها بإيران إلى التراجع والتدهور في الوقت نفسه.
ـ هاجس مصير 20 مليار دولار من التعاون التجاري بين تركيا وإيران المعرّض للتراجع أكثر فأكثر، في حال تبنّي أنقرة مواقف تغضب طهران.
ـ احتمال تدهور علاقات إيران بدول عربية عديدة، وتحديدا الخليجية التي ستتوحد مواقفها مرة أخرى، في دعم حراك الداخل الإيراني، ما قد يحاصر أنقرة في ضرورة اتخاذ مواقف تراعي ما تقوله هذه البلدان، إذا ما كانت تبحث عن حماية علاقاتها السياسية والتجارية معها.
- قد تكون حكومة "العدالة والتنمية" منزعجة بسبب مواقف وسياسات إيرانية كثيرة، لكن الأمور لن تصل إلى درجة تبنّي موقفٍ كان من الممكن أن تعتمده حكومة علمانية يسارية متشدّدة، متحمسة للتغيير على حدودها، كما كانت الأمور في التسعينيات.
- كان الشاه صديقا لأميركا وإسرائيل. وذهبت القيادة الإيرانية بعد 1979 في منحى آخر مغاير كليا. وستدفع طهران ثمن ما جرى قبل 37 عاما، كما تقول إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اليوم. وكانت تركيا أيضا حليفا وصديقا لأميركا وإسرائيل، فيما تتقدم القيادة التركية رويدا رويدا باتجاهٍ آخر يقربها أكثر فأكثر من إيران. هل سيكون ثمن ذلك إغضاب واشنطن وتل أبيب، ودفعهما إلى التحرك ضد تركيا أيضا، كما يحدث الآن مع إيران؟ أم أن أنقرة حسمت موقفها باكرا في الموضوع الإيراني، لأنها شعرت أن واشنطن، هي الأخرى، حددت سياستها التركية الجديدة على ضوء تضارب المصالح، في أكثر من ملف ثنائي وإقليمي، يتقدمه الموقف الأميركي المتذبذب حيال المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا والمشهد السوري.
- إجماع في صفوف الكتاب والإعلاميين الأتراك على أنه لا يمكن لأنقرة أن تقدم لطهران كثيرا من المشورة والنصائح، لمساعدتها على الخروج من أزمتها، فهي تختلف كليا عن أحداث ميدان تقسيم في إسطنبول في 2013. كان التحرّك هناك من أجل حماية مجموعة من الأشجار، وحاول بعضهم من الداخل والخارج استغلاله سياسيا. وهنا ينطلق الحراك من مطالب التغيير والإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الشامل في البلاد.
- الملفت حتى الآن هو التقاء مواقف سياسيين ومحللين وإعلاميين أتراك كثيرين، في الجناحين اليساري العلماني والإسلامي المحافظ، على أن أية أزمة تهدد الداخل الإيراني ستكون لها انعكاساتها على الجار التركي. ربما تجارب ثورات الربيع العربي، وما جرى في سورية والعراق، وارتدادات ذلك على تركيا، هي التي وحّدت المواقف حول ضرورة خروج إيران من أزمتها بأسرع ما يكون.
- بين ما يدفع أنقرة إلى الحذر في تحديد الموقف السياسي النهائي حيال التطورات في إيران، هناك ربما التجربة المريرة التي عاشتها تركيا مع بعض العواصم الغربية، حيث تراجعت فرص الثقة بالآخر منذ ليلة 15 يوليو/تموز 2016، وكثر الحديث عن خلايا استخباراتية وأصابع إعلامية تتآمر وتحرّض ضد حكومة "العدالة والتنمية"، بسبب انزعاجها من سياساتها ومواقفها الإقليمية.
هل تدفع "نظرية المؤامرة" ببعضهم للوصول إلى نتيجة أن استهداف إيران حلقة في مخطط استهداف تركيا إقليميا أيضا. ولذلك قد تقف أنقرة إلى جانب طهران، بشكل أقوى وأكثر علانية؟ هي مسألة غير واضحة بعد، وقد تكون مرتبطة مباشرة بمسار التطورات في الشارع الإيراني، لكن معطيات كثيرة تقول إنه بقدر ما يؤلم التصويب نحو المعدة التركية إيران، فإن تسديد الضربات صوب الخاصرة الإيرانية يوجع أنقرة أيضا.
هناك في أنقرة أيضا من يرى أن الأحداث لن تصل إلى مستوى تهديد الأمن القومي، والبنية السياسية والدستورية والاقتصادية للبلاد. لذلك، ربما اكتفت الخارجية التركية بإطلاق مجموعة من التمنيات بالخروج العاجل لإيران من هذه الأزمة. لكن هناك من يردّد أيضا أن انفجارا اجتماعيا من هذا النوع سيؤثر، شئنا أم أبينا، على سياسة إيران وموقعها ونفوذها الإقليمي، وسيدفعها إلى تبنّي استراتيجية انغلاق على الذات، فترة غير قصيرة، تراجع خلالها سياساتها ومواقفها وطريقة تعاملها مع ملفات كثيرة.
تدعو أنقرة اليوم "إلى تغليب المنطق لمنع أي تصعيد"، لكنه غير معروف بعد إذا ما كانت ستقول شيئا آخر مغايرا، على ضوء تأزم المشهد الإيراني، وسير الأمور باتجاهٍ لا تشتهيه تركيا. قناعة تركية في صفوف قلة من المعارضين أن الأحداث ستكبر وتنتشر، وتتسع دائرتها، في الأيام المقبلة، لأن مصدرها هو أزمة اجتماعية اقتصادية سياسية، تنبعث من العمق، وتتحول تدريجيا إلى موجةٍ جارفة، تكبر وتزداد خطورة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس