أحمد جلال - خاص ترك برس
لا شك في أن النظام العالمي بقيادة الغرب قد تهاوى وبدأ نظام عالمي جديد بالتشكل، ومن أسباب ذلك سقوط الدعائم الأساسية التي كان يستند إليها النظام العالمي بقيادة الغرب نتيجة عدة حقائق أظهرت عجز النظام العالمي بقيادة الغرب عن فهم العنصر الروحي للإنسان وقيم الإنسانية والعدالة، وعجزه عن فهم وحل الازدواجية الشاملة للعالم الإنساني متمثلة في تلك التناقضات المستعصية بين الروح والجسد، وبين الدين والعلم، وبين الفرد والمجتمع، والتقدم والإنسانية، وبين الحب والعنف، وبين ما يدل عليه ويظهره العلم الحديث المتقدم من حقيقة سقوط نظريات التطور والنشوء التي لا تستند لأي أساس علمي وحقيقة وجود إله واحد لا شريك له يحكم الكون وهو الخالق لجميع ما فيه.
1- الحقائق التى أظهرتها سقوط الماركسية
الحقيقة الأولى
سقوط الماركسية في بداية التسعينيات من القرن العشرين، وضع العلمانية العالمية في مأزق جديد، بل قل: وضع لها الكفن ودشّن موتها، لأن سقوط الماركسية بما أنها إفراز للثقافة الحضارية الغربية يعني ضمنًا سقوط كل الإفرازات الحضارية الغربية أي يعني ضمنًا سقوط كل المذاهب التي تبنتها، أو دعت إليها العلمانية.
بل هو أيضًا سحب لورقة التوت وتمزيق "للقماط" الذي توارت العلمانية العالمية خلفه كثيرًا، وهكذا لم يكن غريبًا بعد سقوط الماركسية أن نجد العلمانيين فى جميع أنحاء العالم بما فيهم الماركسيين أصبحوا دعاة للخضوع لأمريكا وللغرب وللرأسمالية، ومبشرين بقيم حرية السوق والاقتصاد الحر والنظام العالمي الجديد، والانخراط في أسوأ أنواع الخيانة ملتقين عن عمد مع الصهيونية والصليبية، ومعتبرين مهمتهم الأولى والأخيرة هي القضاء على الصحوة الإسلامية التي يطلقون عليها اسم الأصولية الإسلامية.
الحقيقة الثانية
سقوط الماركسية أثبت أنّه لا يمكن فصل الدين عن تنظيم الحياة بمختلف مكوناتها السياسية والإنسانية، المادية والمعنوية، وبين الفرد والمجتمع والعلم والتطور والثقافة والحضارة، وحرية العقل وحتمية الطبيعة. وبالتالى فجزء كبير من النظام الدولى قد تهدم.
2- الحقائق التى أظهرتها حروب البلقان وقضية البوسنة والهرسك
الحقيقة الأولى
أنّه لا يوجد نظامان اشتراكي ورأسمالي مختلفان وإنما نتحدث عن نموذج معرفي واحد كامن يأخذ شكلاً اشتراكياً في حالة الاشتراكية وشكلاً رأسمالياً فى حالة الرأسمالية، وأن هناك من ثم رؤية واحدة وراء كل تلك المنظومات بشقيها الغربي أو الشرقي المتصارعة المتنازعة كما فندها علي عزت بيجوفيتش فى كتابة الإسلام بين الشرق والغرب.
الحقيقة الثانية
أن عملية الاستقلال السياسي والعقائدي للدول المسلمة سوف تستمر، ولن يكون الانفكاك سياسياً فحسب، وإنما ستتبعه مطالب حاسمة للتخلص من النماذج والتأثيرات الأجنبية، سواء كانت شرقية أو غربية. ذلك هو الوضع الطبيعي للإسلام فى عالم اليوم. وبالتالي فقد ساهمت هذة الحروب فى هدم جزء آخر من النظام الدولي بعد أن عجز عن منع المذابح والمجازر والتطهير العرقي ضد المسلمين وغيرهم وأصبحت هناك وصمة عار فى تاريخ الإنسانية.
الحقيقة الثالثة
أن المحنة والخذلان والكابوس المفزع المخيف الذي عجز عن حلّه الشرق والغرب فى حروب البلقان وقضية البوسنة والهرسك قد ساهم بنصيب وافر بما لا يدع مجالًا للشك في انهيار النظام العالمي الغربي وضرورة استبداله بنظام آخر جديد كلياً يصيغ أسس جديدة للعدالة والإنسانية بدلاً من شريعة الغاب في البحث عن وتحقيق المصالح والثروات بناء على مفهوم تحقيق المصالح والفائدة المشتركة للطرفين القوي والضعيف وليس من أجل مصلحة الطرف القوي فقط.
الحقيقة الرابعة
أن الإسلام والمسلمين وحدهم فقط هم من يتقبلون الآخر كما هو مهما كانت ملّته أو دينه أو شكله أو لونه أو عرقه فلا مجال للعنصرية والتمييز بين البشر على الأرض وفي الحياة وإنما هي أخوة فى الإنسانية، أما الآخر فهو يريد اجتثاث المسلمين من على وجه الأرض.
3- الثورات العربية وخاصة الحقائق التي أظهرتها الثورة السورية للعالم:
الحقيقة الأولى
التي لا يمكن أن يماري فيها أحد: أيًا كان محتوى التحركات السياسية ماضيًا وحاضرًا، فهي تؤكد قطعًا بأن الأسد لا يمكن أن يستمر سياسيًا، وأن بقاءه في السلطة اليوم أو غدًا بات أشبه بالعدم. وبنفس المقدار، فإن هيمنة الطائفة "النصيرية" سياسيًا تحطمت بالكامل، أما استمرارها فسيغدو حلمًا سياسيًا، ناهيك أن يرقى إلى مستوى ذلك اجتماعيًا، ولو في مستوى ما يسمى بالتعايش الاجتماعي.
الحقيقة الثانية
تقول بأن الثورة السورية التي أريد بها كسر إرادة الشعوب، ورغم تكلفتها المدمرة، انتشلت في المحصلة عموم الثورات العربية، وقدمت نموذجًا حقيقيًا لما تتطلبه الحرية من أثمان حقيقية لانتزاعها.
الحقيقة الثالثة
التي بات الجميع يتحدث عنها اليوم بلا استثناء، فهي التي أنجز فيها السوريون، واقعًا، ما لم تنجزه الأمة في مئة عام، فالثورة هدمت النظام الدولي، أو تكاد. فهذا النظام الذي نعرفه منذ مئة عام، لم يعد فعليًا قائمًا، وغدا بحاجة إلى بناء جديد أكثر منه ترميمًا. وهذا يعني أن المشاكل الدولية على وشك أن تبدأ، ربما بصيغة أكثر عدوانية ودموية مما وقع حتى الآن.
الحقيقة الرابعة
إن بقاء "الدولة العربية" صار موضع نقاش في الغرب قبل الشرق، بعد أن تآكلت مشروعيتها، إلى الحد الذي لم يعد النظام السياسي تعنيه لا خدمات ولا حقوق ولا أمن اجتماعي ولا حاضر ولا مستقبل، بقدر ما تعنيه اللحظة الراهنة التي يعيشها. بل أن التغيير الديموغرافي والجغرافي صار واردًا على كل لسان إلى الحد الذي يتحدث فيه البعض عن اختفاء دول مثل العراق وسورية وهو ما يتجاوز الحديث عن انهيار الشرعيات التي أوجدت الدولة نفسها.
4- حقائق أظهرتها عدم حل المشكلة الفلسطينية وتعقد الحل النهائى ووضع مدينة القدس المشتعل
الحقيقة الأولى
تغيير الوضع الديموغرافي للأراضي والمدن الفلسطينية، وإنشاء المستوطنات بالقوة وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم بالقوة، وعدم السماح بحق العودة للآجئين، وإهدار جميع القرارات التي تخص المشكلة الفلسطينية والعجز عن تنفيذها بل ووقفها باستخدام حق الفيتو الذي أظهر عجز النظام العالمي الغربي وعدم حياديتة بمناصرتة للكيان الصهيوني على طول الخط ضد الحقوق الفلسطينية.
الحقيقة الثانية
اعتبار من لا يملك القدس بأنها عاصمة للكيان الصهيوني وسعيه لنقل سفارته لها دون استشارة الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين وباقي أطراف المجتمع الدولي، مما ينذر بعواقب خطيرة بمنطقة الشرق الأوسط، وهذا يدل على عجز النظام العالمي الغربي وفقدة لمصداقيته أمام شعوب العالم حيث أنّه يعطي الحق لغير أصحابه.
5- حقائق أظهرتها الكوارث الاقتصادية العنيفة فى وجة الرأسمالية العالمية
الحقيقة الأولى
أن الرأسمالية كنمط حياة ليبرالي اتخذت من الحقوق الفردية، مطية لترويج فلسفتها. وتبعا لذلك فإن كل الموجودات المادية والمعنوية بكافة أشكالهما وتحولاتهما هي بالضرورة سلع قابلة للبيع والشراء في السوق. فالكائنات الحية والجمادات والأديان والتواريخ والحضارات والحقوق والقيم والأخلاق والسلوك والعلاقات والمشاعر والثقافات والفن والجمال والعلوم والفلسفات والقوانين والدساتير وحقوق الإنسان والأمم والشعوب والأفراد والجماعات والأوطان والحروب والسلام والإرهاب والماء والهواء والمنتجات والمحرمات والمباحات، هي مجرد سلع، أو أنها قابلة للتسليع والإخضاع لشروط السوق، حيث مبدأ "الكسب والخسارة". كل هذه السلع تخضع لمبدأ فلسفي رأسمالي صارم من نمط حياة متوحش، ومنطق بوهيمي إمبراطوري أطبق على الأرض دفعة واحدة، بعد الحرب العالمية الأولى، واتخذ من النظام الدولي غطاء شرعيا له، وأزهق أرواح عشرات الملايين من البشر، وأغرق بقيتهم في الدماء إلى يومنا هذا، وسلط عليهم قيمه العنصرية التي تعتبرهم حتى دون البشر، وأطلق العنان لأوسع وأضخم عملية نهب واستعباد وتوحش رأسمالي وحروب غير مسبوقة في التاريخ الإنساني، لا تزال وقائعها مستمرة حتى الآن. فكم بقي للرأسمالية من عمر كي تبقى مهيمنة على عقلية البشر وحقوقهم وأرزاقهم ومعيشهم؟ بل كم بوسعها أن تستمر؟ ووفق أية شروط؟
الحقيقة الثانية
أزمات الرأسمالية على مستوى أعباء الديون فقط، فسنلاحظ أن أحدا لم يفلت منها، ابتداء من الأفراد والأسر والجماعات والمؤسسات والشركات، وانتهاء بالدول والشعوب. وهي كالماركسية أيضا؛ في مشكلاتها البنيوية، التي تقع في صلب فلسفتها، التي نمت وترعرعت على الاستعمار والحروب والنهب... وفي منظوماتها القانونية التي وفرت للنهابين حماية وملاذات آمنة للتهرب الضريبي، وتكديس الثروات فيما يعرف بمناطق الـ Offshore... وفي جشعها الذي لا يرى حلا لمشاكل الديون إلا عبر سياسات التقشف، التي يدفع ثمنها الفرد والمجتمع والدولة، في حين يزداد الأثرياء ثراء على ثراء... وفي كونها بالنهاية فلسفة وضعية من صنع البشر، لا بد لعمرها من نهاية، وليست عقيدة أزلية، فلن يعود بمقدورها أن تستمر، ناهيك أن تبدع، وهي التي لا تجد من وسيلة للتخلص من أزماتها إلا الترقيعات القانونية لمنظومة اتسع فيها الخرق على الراقع، حتى صار تلاشيها الحتمي أقرب من أية إصلاحات لم تعد تجد لها حيزا في المنظومة.
سبعون عاما فقط، بدءًا من انتهاء الحرب العالمية الثانية، هو عمر الرأسمالية ما بين نموها وازدهارها وغرقها في أزمات طاحنة، وفي عقر ديار نشأتها. بل سبعون عاما مضت هي كل رصيد السلام والأمن في العالم الرأسمالي الغربي، الذي لم يعرف في تاريخه سوى الحروب والقتل ومصادرة الحقوق والمواطنة وإشاعة الظلم والاستعباد لشعوبه، قبل أن يخرج من حدوده لغزو الأمم والشعوب، ولتصدير قيمه وفلسفاته المتوحشة، وممارسة النهب على أوسع نطاق لا سابق له ولا مثيل لة في التاريخ الإنساني. سبعون عاما مضت وسادة العالم الرأسمالي يبنون دولهم ومجتمعاتهم وثرواتهم وازدهارهم ورفاهيتهم على حساب البشر، حتى أنهم لم يوفروا نهب شعوبهم.
الحقيقة الثالثة
بالمقارنة؛ فإن الفرق بين العالم الإسلامي والعالم الرأسمالي هو ذات الفرق بين الصراع على العقائد والصراع على الموارد والثروات. أما الفرق بين الصراعين فيكمن في استعداد الرأسمالية للنهب والغزو والاحتلال والنهب والاستعباد والتحكم والسيطرة بلا حساب لأية مرجعية أخلاقية أو إنسانية إلا في الشكل دون أي مضمون. أما في الإسلام فلم تكن الفتوحات على اتساعها شرقا وغربا لتمارس أي نوع من النهب أو الاستعباد أو الهيمنة، ولم يكن لها من هدف إلا تبليغ الدعوة. ولم يتدخلوا حتى في المجتمع ولا نمط حياة الناس إلا بما يفرضه الشرع من حلال أو حرام. ولو كانت غير ذلك لكان المسلمون أغنى أغنياء الأرض. والحقيقة أن كل ما فعله المسلمون لدى فتحهم البلاد هو الدعوة ومن ثم تطبيق القواعد الشرعية: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾، (6 : الكافرون)، من ﴿ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾، (29 : الكهف).
6- حقائق أظهرتها حملة غصن الزيتون
الحقيقة الأولى
منع أو الحد من تقسيم الدول العربية بالقوة على يد المنظمات الإرهابية المدعومة من القوى الدولية والخارج بغرض إعادة توزيع ثروات منطقة الشرق الأوسط والدول العربية والسماح بتمدد الكيان الصهيوني على حساب الدول العربية والاستيلاء على القدس وإعلانها عاصمة للكيان الصهيوني بالقوة.
الحقيقة الثانية
القضاء على أغلب المنظمات الإرهابية صنيعة الغرب والتى تدعي انتمائها للإسلام والمسلمين وهي بعيدة كل البعد عنة جملة وتفصيلاً بل وتؤذى المسلمين وتسبب لهم أشد الضرر بما يصاحبها من دعاية إعلامية غربية خبيثة، فضلاً عن تدمير الدول العربية والإسلامية وقتل شعوبها فى مجازر يندى لها التاريخ بحجة القضاء على الإرهاب.
الحقيقة الثالثة
لأول مرة فى التاريخ منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية تحدث حملة عسكرية ناجحة بدرجة امتياز دون أن يصاب أو يخدش بجرح أحد من المدنيين أو يصاب بل تقدم لهم كل المعونات المتاحة من غذاء ودواء وتطبيب ومساعدات وخلافه مع مساعدة الأهالي على العودة الآمنة إلى أراضيهم وقراهم التي تركوها نتيجة للحروب، وهذا إن دل فهو يدل على تقدير الإسلام للإنسان وإنسانية الإسلام حتى فى الحروب، وهذا ما أدى لكشف الوجه القبيح للنظام العالمي الغربي الذي لم يتوانى عن تدمير دول بأكملها وحصد شعوبها بغرض السيطرة وتوزيع الثروات من جديد بحجج القضاء على الإرهاب للقضاء على الديموقراطيات الناشئة والحرية والعدالة التى ينشدها كل إنسان فى الدول المحرومة منها، فضلاً عن الإهدار الصارخ لحقوق الإنسان من قبل المجتمع الدولي.
الحقيقة الرابعة
أن الولوج إلى الحداثة والتقدم والنهضة لن يمر عبر القضاء على الدين والتراث والهوية الإسلامية، وإن تطور العلوم وثرائها ممكن مع بقاء الدين الإسلامي على وجة الخصوص، بل أن العلوم سوف تكتسب صفتها الإنسانية من الدين الإسلامي وكما ساهم فيها الإسلام من قبل في أوج نهضته وحتى في أقسى مراحل ضعفة، وهذا ما يبشر ببزوغ فجر نظام عالمي جديد عوضاً عن النظام العالمي الغربي الذي فشل فشلاً ذريعاً فى إدارة العالم.
هكذا نجد حال العالم اليوم، في إطار الصراع الدولي، يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن حالها عشية الحرب العالمية الأولى سنة 1913. فأعظم الصراعات الدموية الطاحنة تجري على الأرض، والنظام الدولي التقليدي، الذي مضت على ظهوره قرابة مئة عام مضت، يكاد يلفظ أنفاسه إنْ لم يكن قد لفظ أنفاسه فعلا، وتقاسُم النفوذ الدولي والهيمنة المتعاظم، وكذلك الشلل الذي يضرب مؤسسات النظام الدولي حتى أن بنية النظام الدولي السياسية والقانونية قد استنزفت إلى الحدود التي تبقيها مجرد هياكل شكلية، بلا فاعلية. الأمر الذي يدفعنا إلى الحديث، على الأقل، عن حتمية تهاوي النظام الدولي الغربى وبدء تشكل نظام دولي جديد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس