محمد حسن القدّو - خاص ترك برس
الرعاية الاجتماعية هي إحدى الحقوق الأساسية التي تكفلها الدولة للفرد، في الحصول على كافة حاجاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتربوية، وحقه وأسرته في العيش وفق مستويات معيشية جيدة المستوى، هذا إضافة إلى حقه في الحصول على فرص العمل التي تفيده في تلبية متطلبات معيشته، وفرصة الضمان الاجتماعي.
والضمان الاجتماعي هو تأمين مستوى كريم من المعيشة لمن هو في حاجة لذلك من غير إحساس بشفقة أو استضعاف مما يساهم في انتشار العدل والرحمة والألفة بن الناس. وهذه هي مسؤولية الدولة بل وهي تقع ضمن السياسة العامة للدولة، ورقي سياسة الدولة في هذا الجانب هي مرآة عاكسة لرقي الدولة نفسها.
جذور وأسس
في صباح يوم مشرقة باردة مررت بساحة صغيرة عند مدخل إحدى محطات مترو المدينة، رأيت الكثير من طيور الحمام وهي تلتقط الحب الذي نثره المواطنون، انتبهت إلى المنظر الآتي:
رجل كبير في السن جالس على كرسي وأمامه منضدة مملوءة بأكياس صغيرة تحوي على قمح (لقط) للطيور، وتمر فتاة جميلة وتشتري كيسين اثنين من الرجل المسن، ثم تأتي إلى حيث الطيور مجتمعة ثم تنثرمحتوى الكيسين تباعا وتمضي إلى وجهتها وعملها، انتبهت إلى المنظر الذي لم يدهش أحدا سواي واستنتجت أنّ فعلها لهذا العمل لم يكن فريدا وإنما هي حالة متأصلة في المجتمع التركي. وعند بحثي عن الموضوع علمت بأنّها عادة إسلامية قديمة مستمرة في تركيا حتى اليوم حيث يقوم الناس بالصعود للجبال بعد هطول الثلوج لفترة طويلة ونثر القمح عليها حتى لا تموت الطيور البرية من الجوع. وأول من طالب أهالي تلك المناطق بهذا الفعل هو الخليفة "عمر بن عبد العزيز" حيث قال هذه العبارة: انثروا القمح على رؤوس الجبال كي لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين، والقصة المعروفة عن الخليفة عمر بن عبد العزيز عندما أمرمساعديه بأن يُرسِلوا المُنادين إلى الأمصار الإسلامية لينادوا تعليمات الخليفة إلى الملأ:
أيها الناس: من كان عاملاً للدولة وليس له بيتٌ يسكنه فلْيُبْنَ له بيتٌ على حساب بيت مال المسلمين.
ياأيها الناس: من كان عاملاً للدولة وليس له مركَبٌ يركبه، فلْيُشْتَرَ له مركب على حساب بيت مال المسلمين.
ياأيها الناس: من كان عليه دينٌ لا يستطيع قضاءه، فقضاؤه على حساب بيت مال المسلمين.
ياأيها الناس: من كان في سن الزواج ولم يتزوج، فزواجه على حساب بيت مال المسلمين.
ثم قال: انثروا القمح على رؤوس الجبال كي لا يُقال جاع طيرٌ في بلاد المسلمين.
إن هذه الخطوة التي أقدم عليها الخليفة الراشدي الخامس رضي الله عنهم جميعا تعتبر الترجمة الحقيقية للمفهوم الإسلامي للضمان والتكافل الاجتماعي، واستمرت هذه الخطوات في الدول الإسلامية وآخرها الدولة العثمانية حيث أسس نظام الأوقاف السلطان أورخان وهو ثاني السلاطين العثمانيين عندما أمر ببناء أول مدرسة عثمانية في "إزنيك"، أوقف لها من الأموال غير المنقولة لتسدّ حاجاتها من المصاريف والنفقات، واقتدت بها أوقافٌ أخرى قامت لأغراض مختلفة، كصرف منح إعانة لليتامى، وللأرامل، ورعاية الكبار العاجزين، وتأمين إرضاع الأطفال، وتجهيز البنات للزواج، وحتى إطعام الطيور، وشراء الألعاب للأطفال، وتأمين حاجيات المسافرين، والإنفاق على طلبة العلم وتأمين الإقامة لهم، وتأمين العمل للعاطلين.
ويصنّف علماء المسلمين المختصين ومنهم الأستاذ مصطفى "السباعي" القوانين التي تنظم التكافل الاجتماعي في الإسلام إلى سبعة عشر قانونا تشمل الفئات التالية: الفقراء والمساكين- المرضى- العميان- المقعدين- الشيوخ أو المسنين- المشردين ـ اللقطاءـ اليتامى ـ الأسرى- مساعدة المدين- والقاتل عن غير عمد، وابن سبيل- الضيافة- المشاركة- المعاون- الإعفاف- الإسعاف- الطوارئ ومساعدة الإغاثة- التعويض العائلي.
الرعاية الاجتماعية في تركيا بعد 2002
تنص المادة 60 من الدستور على أن «الكل يتمتعون بالضمان الاجتماعي، والدولة تتخذ الإجراءات الكفيلة لتحقيق هذا الضمان، من خلال مؤسسات تقيمها.
أما المادة 10 من الدستور فتنصّ على أنّ: جميع الأفراد متساوون أمام القانون دونما تمييز، بصرف النظر عن اللغة، أو العِرق، أو اللون، أو الجنس، وللرجال والنساء حقوق متساوية، والدولة ملزمة بضمان تحقيق هذه المساواة على الصعيد العملي، ولا تُفسَّر التدابير التي تُتَّخذ لهذا الغرض باعتبارها مخالفة لمبدأ المساواة.
ولغرض إعطاء موضوع الضمان الاجتماعي أهمية إضافية وتمييزه وتمييز المستفيدين من التدابير والإجراءات الحكومية ولغرض تحديد نطاق التمييز الإيجابي فقد تم تعديل المادة بإضافة الفقرة الآتية:
والتدابير التي تُتَّخذ لصالح الأطفال والمسنين والمعاقين وأرامل الشهداء وأبنائهم، وكذلك لصالح مصابي الحرب وقدامى المحاربين، لا تُعتبر مخالفة لمبدأ المساواة.
أقرّ البرلمان التركي في عام 2003 قانونا يقضي بتشكيل مجلس استشاري للرعاية الاجتماعية يحدد وينفذ السياسات المقررة. ويضم المجلس ممثلين من عدة وزارات ومؤسسات عامة ويجتمع مرة كل عام.
ومر نظام الضمان الاجتماعي التركي بتحول كبير في عام 2007، عندما تم دمج صناديق التأمين الثلاثة وهي مؤسسة التأمينات وصندوق التقاعد ومؤسسة أرباب الحرف والمهن الحرة بموجب القانون رقم 5502، وسميت بمؤسسة التأمينات الاجتماعية مما أدى إلى إرساء نظام عامل أكثر كفاءة وسرعة، يستند إلى مركزية التحكم في صناديق الضمان الاجتماعي المختلفة داخل مؤسسة واحدة وغطت أكثر من 81% من عدد السكان.
ويغطي نظام الضمان الاجتماعي الآن ما يقرب من 99 بالمائة من مجموع السكان حيث شهد هذا العدد زيادة بنسبة 29 بالمائة منذ عام 2002.
مؤسسة الضمان الاجتماعي مكلفة بتسيير نظام الضمان الاجتماعي وفق مبادئ التأمين الاجتماعي بشكل مؤثر وعادل ويمكن الوصول إليه بسهولة ويمكن إدامته من الناحية الواقعية والمالية وقائم على المعايير المعاصرة.
من ناحية أخرى، وبالقانونين رقم 5510 ورقم 5754 اللذان دخلا حيّز التنفيذ بتاريخ 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2008 وتم إصدارهما في إطار «إصلاح الضمان الاجتماعي»، تم تكوين بنية مؤسساتية جديدة في نظام الضمان الاجتماعي، تتساوى فيها حقوق والتزامات التأمين، وتمت إقامة نظام ضمان تقاعدي واحد يمكن إدامته من الناحية المالية، وتكوين نظام تأمين صحي عام لتقديم خدمات صحية جيدة لكافة السكان بالتساوي ويمكن الوصول إليه بسرعة.
تعطي المديرية العامة لمؤسسة الخدمات الاجتماعية ورعاية الأطفال الأولوية لتأمين رعاية الأطفال والمعوقين والمسنين بجانب عائلاتهم. وبمشروع العودة إلى العائلة، الذي تم وضعه حيّز التنفيذ انطلاقاً من هذا المفهوم، تم منح مساعدة اجتماعية ودعم خدمة اجتماعية ل 5.727 طفلاً يعيشون مع عائلاتهم أو أقربائهم. حيث تقوم المؤسسة بصرف مساعدة إضافية للعائلة في حال موافقة ذوي الطفل المعوق والبالغ المعوق والمسن للأقامة بجانب عائلاتهم أمّا عدد الأطفال الذين تم دعمهم وهم بجوار عائلاتهم دون وضعهم تحت الحماية فهو 18.081 طفل. في عام 2008، تم وضع 349 طفلاً لدى عائلات بواسطة برنامج «تبني الأطفال». كما تم تأمين رعاية 1.103 طفلاً بواسطة برنامج «العائلة الراعية» وهي العائلات التي تتبنى رعاية وتربية الاطفال اليتامى وغيرهم من الأطفال المشردين قسرا. بالإضافة إلى ذلك، سوف يصبح بإمكان 4.916 طفلاً تلقي الرعاية في دور المحبة حتى عام 2010 في إطار مشروع دور المحبة.
اعتباراً من بداية عام 2009، تم تقديم خدمات الرعاية والتأهيل في 69 مؤسسة ليبلغ المجموع 4.270 معوقاً، بالإضافة إلى ذلك، تم تقديم أجرة الرعاية لأقرباء 136.089 معوقاً يحتاجون للرعاية.
وبجانب ما تقوم به الدولة من تنفيذ سياستها في قطاع الضمان الاجتماعي بواسطة الأشخاص الحقيقيين والهيئات الحقيقية، هناك أيضا برامج مرادفة للمساعدات والخدمات الاجتماعية تطبقها بعض مؤسسات القطاع العام ونذكر بعضها:
1- المديرية العامة للمساعدات الاجتماعية والتضامن: تقوم بتقديم المساعدة للمواطنين المحتاجين والإسهام في تحسين توزيع الدخل باتخاذ التدابير الكفيلة بترسيخ العدالة الاجتماعية.
2- المديرية العامة للأوقاف: تقوم المديرية العامة بمنح رواتب شهرية للمحتاجين والمعوقين، وتقديم وجبات الأكل المجانية، وتسديد مصاريف المرضى المحتاجين، وتقديم المنح الدراسية للطلبة المحتاجين، وتقديم المساعدات الاجتماعية لذوي الحاجة لأي سبب كان.
3- وزارة الصحة: تقدم الوزارة المساعدات الصحية للمواطنين المحتاجين غير المشمولين بضمان أي مؤسسة والذين ليسوا في وضع يسمح لهم بتسديد نفقات الخدمات الصحية، إضافة إلى ذلك فقد تمت إضافة كل الاطفال الذين لم يبلغوا سن 18 عاما سواء دون دفع أجور التأمين الصحي لهم، ويذكر أنّ القانون التركي اعتبر كل من لم يبلغ 18 عاما طفلا بعد أن كان الحدّ 16 عاما.
4- مؤسسة الضمان الاجتماعي: تقوم المؤسسة بمنح رواتب شهرية للمواطنين الأتراك الذين أكملوا سن ال 65 والمعوقين الذين تزيد أعمارهم عن 18 عاماً والمكلفين قانوناً بإعالة أقارب معوقين لم يكملوا الثامنة عشرة من العمر، شريطة أن يكونوا محتاجين.
5- البلديات: تقوم البلديات بتقديم مختلف الخدمات الاجتماعية والمساعدات للمواطنين المحتاجين وحسب الإمكانات المتاحة لديها.
البطالة ومعالجتها
كانت البطالة حتى عام 2007 من الأمور المقلقة في تركيا، ولم تفلح السياسات الحكومية والتي كانت تعتمد خططا قصيرة المدى في تقليل نسبة البطالة، إلا أنّ الخطة المتخذة منذ عام 2002 والتي كانت تعتمد على استراتيجية طويلة المدى أو مايسمى بعيدة الأجل فبدأت النسبة بألانخاض حتى وصلت الى 7 و8% في عام 2014، ومن المؤمل أن ينخفض الرقم في عام 2015 حسب تقدير منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. ويعتبر هذا الرقم نموذجيا إذا علمنا أنّ نسبة البطالة في دول اليورو بلغت 11% عام 2014.
يعدّ هذا الرقم لنسبة البطالة في تركيا رقماً صغيراً جداً لأننا نعرف أنّ قانون العمل قد قسّم الوظائف إلى عدة أقسام وهي:
- عقود توظيف للعمل الدائم والمؤقت.
- عقود توظيف لفترة محددة ولفترة غير محددة.
- عقود توظيف بدوام جزئي أو بدوام كامل.
- عقود توظيف للعمل بالاستدعاء.
- عقود توظيف لفترة اختبار.
- عقود توظيف مرتبطة بعقد لمجموعة.
وفي هذا الإطار ولغرض دعم محدودي الدخل من العاملين فقد تم إنشاء مشروع تخفيف المخاطر الاجتماعية، وقد بلغ الإنفاق لهذا المشروع من عام 2001 وحتى عام 2006 أكثر من 500 مليون دولار، وشمل الإنفاق أيضاً علاج المواطنين محدودي الدخل إضافة إلى دعم الوكالات الحكومية التي تقدم خدمات أساسية ذات طابع اجتماعي إلى الأسر محدودة الدخل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس