
جين لويز كاندور - ديلي صباح - ترجمة وتحرير ترك برس
عادت الانتخاباتُ مرةً أخرى، لتُقرع الطبول محاولةً إثارة الاستقطاب والقومية والمشاعر الشعبوية. ولكن، وكما هو الحال دائمًا، لا تجري الأمور في تركيا بتلك البساطة.
كتب جورج أورويل ذات مرةٍ أنه يجب على المرء ألا يخلط بين القومية والوطنية. وقد عرّف أورويل الوطنية بأنها: "... روح التفاني تجاه مكانٍ معينٍ وطريقة حياةٍ معينة، والتي يعتقد المرءُ أنها الأفضل في العالم دون أن يحمل رغبةً في فرضها على الآخرين. الوطنية هي دفاعيةٌ بطبيعتها، عسكريًّا وثقافيًّا".
من ناحيةٍ أخرى، يكمل أورويل: "القومية… لا يمكن فصلها عن الرغبة في السلطة. إن الهدف الثابت لكل قوميٍّ هو ضمانُ المزيد من السلطة والهيبة أكثر، ليس لنفسه بل للأمة أو الجهة التي اختار أن يغرق شخصيته الخاصة فيها".
تعني الوطنيةُ حبَّ المرء ثقافته الخاصة، وبلده بما يكفي للدفاع عنه. من المظاهر الملموسة للوطنية، الطريقةُ التي استجاب بها الأتراك ليلة 15 تموز / يوليو 2016.
القومية هي عدم الثقة بـ/ أو الكراهية لأي شخصٍ مختلف، أي شخصٍ يأتي من الخارج. القومية تعني محاولة إجبار الناس على الاندماج بدلًا من التكامل. القومية تعني فرض لغة واحدة، مع عدم المواقفة على اللغات الأخرى أو حظرها بشكلٍ واضح، بالإضافة إلى أشكالٍ أخرى من العبادة الدينية، أو علامات الانتماء.
للأسف، من الممكن رؤية القومية في الولايات المتحدة وفي كل بلدٍ أوروبي تقريبًا: القيامُ ببناء جدارٍ لإبعاد المهاجرين، وترك الاتحاد الأوروبي بهدف إرسال المهاجرين إلى بلادهم، والوقوف في خطوطٍ على الحدود لإبعاد اللاجئين، أو حتى إغراق القوارب لمنعهم من الهبوط على شواطئهم، كل هذه الأعمال تنبعُ من المشاعر القومية.
القولُ "جعل أمريكا عظيمةً مرةً أخرى" لا يحمل بحد ذاته مشاعر قومية، بل إنه شعورٌ وطني. ولكن عندما يقترنُ هذا الشعور ببناء الجدران من أجل منع بعض الجنسيات من دخول البلاد، عن طريق الخطابة ضد السماح بدخول المزيد من الناس إلى دولةٍ كانت في الواقع مبنيةً على الهجرة، فإن فكرة "اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" تصبح قوميةً بشكلٍ خطير.
تتغذى الشعبوية على القومية، يرتبط الخوف من الإرهاب بطريقةٍ أو بأخرى باللاجئين الذين يفرون من البلدان الممزقة للعثور على حياةٍ آمنةٍ لأطفالهم. يصبح اللاجىء شخصًا يُخاف منه ويجب أن يبقى في الخارج. تواجه اليوم الجمعيات الخيرية الإسلامية خطرًا مباشرًا بسبب وصفها بأنها تدعم الجماعات الإرهابية. لكن في الواقع، كل ما تحاول تلك الجمعيات فعله هو مساعدة اللاجئين وتعزيز التفاهم بين المجتمعات. مثل هذه الاستجابات المتطرفة هي مجرد نتيجةٍ نهائية للقومية والشعبوية التي تمادت حدّ الجنون.
لكن إلقاء اللوم كله على عاتق القادة الحاليين في أوروبا أو أمريكا هو تبسيطٌ مفرطٌ للمشاعر القومية الغربية.
لقد كان الرؤساء الأمريكيون دائمًا ما يرفعون فكرة الاستثناء الأمريكي، أي أن أمريكا فريدةً نوعًا ما بين جميع البلدان. هذه النزعة الاستثنائية، فكرة أن أمريكا بطريقة ما لديها المزيد من المساواة المتأصلة في نظامها، وهي أكثر عمقًا في الدين والخير والرعاية من أي بلدٍ آخر، تكمن في أساس الاستثنائية الأمريكية.
الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، الذي يرى الكثيرون أنه نقيضٌ للرئيس دونالد ترامب، استخدم الاستثناء. ربما لم يكن يريد "جعل أمريكا عظيمةً مرة أخرى"، لكنه قال ما يلي: "أريدنا أن نتناول العمل غير المكتمل لنجعل اتحادنا مثاليًّا، وبناء أمريكا أفضل… معًا، ابتداءً من اليوم، دعونا ننهي العمل الذي يجب القيام به، ولندخل في ولادة جديدة للحرية على هذه الأرض".
أي أنه لم يشرع في جعل أمريكا عظيمة، كان للرئيس أوباما هدف متواضع، أراد أن يجعل أمريكا أفضل، أراد أن يصل بالاتحاد الأمريكي للمثالية. وبذلك، فإن أمريكا، هذه الأمة الاستثنائية، سوف تبشر بالحرية على الأرض. الكمال والمثالية والعظمة، إنها في نهاية الأمر تلخص الأمر نفسه. وبالطبع هناك فرقٌ بين أوباما وترامب، إن الإجراءات التي يتخذها ترامب أكثر تطرفًا من أي إجراءاتٍ اتخذها أوباما أو فشل في اتخاذها.
بالعودة إلى تركيا، مع اقتراب موعد الانتخابات، يدعو العديدُ من المعلقين الغربيين والأتراك الرئيس رجب طيب اردوغان لاستخدام الخطاب القومي، إنهم يلومونه على قيادة الاستقطاب.
الرئيس أردوغان ليس سياسيًّا أقل أو أكثر من الرئيس السابق أوباما. كلاهما قد اتخذ منصةً تساعده في الانتخابات. إن أي سياسي لا يفعل ذلك لا يمكن أن يُسمى سياسيًّا، ففي طبيعة الحال كون المرء سياسيًّا يعني محاولته إدراة أكثر الحملات نجاحًا ليتم انتخابه أو إعادة انتخابه.
هنا، لا بدّ أنك تقول أيها القارىء: ولكن انتظر، يجب على السياسي ألا يدفع المشاعر القومية إلى الأمام أو يشعل لهيب الاستقطاب لمجرد أن يتم انتخابه، هذا غيرُ أخلاقي، هذا ليس صحيحًا في المناخ الديمقراطي.
مثل هذا القول، هو صحيحٌ تمامًا. ولكن لكي نفهم حقيقة أن أردوغان ليس قوميًّا في طريقة وصوله، وبأنه أبعد ما يكون عن إذكاء نار الاستقطاب، فإن التذكير ببعضٍ من ماضي تركيا قد يكون مناسبًا.
كانت الأمة التركية عندما وُرثت من العثمانيين، أو بالأحرى عندما استُعيدت من غزو العديد من الدول الأجنبية المختلفة، تتألف من أناسٍ من أصلٍ يوناني وأرمني ويهودي. كانت هناك شعوبٌ من القوقاز وشعوب البلقان. كان هناك لاز، ثم كان هناك الأتراك. كانت البلاد عبارةً عن فسيفساءٍ حقيقية، "بوتقة تنصهر" بشكلٍ حقيقي.
لجلب هؤلاء الناس إلى دولةٍ جديدة، تم التركيز على بعض القواسم المشتركة بينهم. المواطنة الجديدة كانت إشكالية، ثم إنشاء لغة جديدة، التركية الجديدة، عن طريق تغيير الأبجدية وتقديم العديد من الكلمات الجديدة "الأوروبية". أصبح علماءُ الأمس أميّين فجأةً. تمت إزالة الدين بين عشيةٍ وضحاها باعتباره غير مشترك، وبُذلت الجهود لجعل العلمانية الغراء ما يربط الأمة معًا. تم تقديم طريقةٍ جديدةٍ للباس، مع قانون القبعات، مصحوبًا بالتشجيع للتخلي عن الحجاب، بهدف التقريب بين أفراد الأمة الجديدة.
مع مرور الوقت، فُرضت هذه التغييرات بطغيانٍ أكبر وأكبر. قبل 15 سنةٍ فقط، كان أطفال المدارس الابتدائية يرسمون صورًا احتفلت بإصلاحات مصطفى كمال أتاتورك، لقد رسموا قبل وبعد: في صورةٍ رسموا الرجال ذوي اللحى والسيدات في حجابٍ كاملٍ جالسين وينظرون بشكلٍ مكتئب، وفي الصورة المجاورة رسموا الرجال حليقي الذقن على رؤوسهم قبعات والسيدات بالتنانير القصيرة وهم يقرؤون الكتب ويبدون سعيدين. هؤلاء الأطفال كانوا يصوّرون فقط ما يتمُّ تعليمه لهم. اللحية والحجاب (أي الدين) مرادفان للجهل والتعاسة، والزي الحديث (وبالتالي اللا دين) يعني أن تكون متعلمًا وسعيدًا.
يقرأ تلاميذ المدارس كل صباح: "أنا تركي، أنا أعمل بجدٍّ وأنا صادق". خارج كل مدرسةٍ تقريبًا سترى الاقتباس من أتاتورك: "كم هو سعيدٌ ذلك الذي يمكنه أن يقول: أنا تركي".
لم يقل أحدٌ في تركيا: أنا كردي، أنا جورجي، أنا بلغاري. حتى بداية هذا القرن، كان الحديث بالكردية في العلن لا يجلب سوى الرفض من الآخرين أو ربما المتاعب للمتحدث.
نشأت القومية العلمانية مع أتاتورك، القومية والشعبوية هما اثنان من المبادىء الستة الكمالية (المبادىء التي تعتبر المعيار في الـCHP). وهذا يعني أن القومية والشعبيية هما نموذجان من المثل العليا الست التي يرمز لها حزب الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الرئيسي.
وفقًا لتقريرٍ صدر مؤخرًا عن "مركز التقدم الأمريكي" بعنوان "القومية التركية الجديدة والسياسة المتغيرة"، توجد الآن قوميةٌ جديدةٌ في المدينة، إنها قومية أردوغان. إنها "مسلمة بشكل قاطع، مستقلة بشكل عنيف، لا تثق بالغرباء، تشكك في دولٍ أخرى وفي نخبٍ عالمية، ترى أنها تعيد تركيا إلى الوراء".
آه! جد لي قوميةً واحدةً تحب كل الأمم الأخرى وتفتح لها أذرعها وترحب بها!
يقول التقرير: "على الرغم من أن عددًا كبيرًا من الأتراك يرون أن للإسلام دور مركزيّ في هويتهم الوطنية، إلا أن هناك أيضًا دعمًا واسعًا لتركيا كي تبقى علمانية". ومن المثير للاهتمام أن التقرير يذكر أن 35% فقط من حزب العدالة والتنمية يريد أن تكون الرسائل الإسلامية مركزية. في حين تعتقد الأغلبية المتبقية من الحزب أن تركيا دولةً علمانية.
صحيحٌ أن الأتراك، ككل، غير راضين عن الغرب في الوقت الحالي. بعد الانقلاب الفاشل، والدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب (YPG)، والفشل في تسليم غولن، لا يجب أن يكون مثل هذا الاستياء مفاجئًا. أضف إلى ذلك التصريحات والخطابات المناهضة لتركيا خلال الانتخابات الأوروبية الأخيرة، فضلًا عن الدعم المفتوح لحزب العمال الكردستاني في هذه الدول.
يقول علي تشينار، رئيس منظمة التراث التركية: "كل شخص في تركيا، الحكومة والمعارضة، حساسون بشأن هاتين المسألتين وهما متفقان. لذلك من الخطأ أن نرى ذلك كقضيةٍ لحزب العدالة والتنمية".
باختصار، إن النزعة القومية الواضحة اليوم ليست شيئًا فريدًا لحزب العدالة والتنمية، بل هي شيءٌ يخصُّ كل الأطراف، وقد قام بغرسها جميع الأتراك على مر السنين.
وإذا ما نظر المرءُ إلى الكيفية التي تظهر بها هذه القومية على مستوى حزب العدالة والتنمية، فإن الإجراءات الفعلية لحكومة أردوغان ستظهر في صورةٍ مختلفةٍ إلى حدٍّ ما.
يدعم دونالد ترامب خطابه من خلال منع بعض الجنسيات من السفر إلى أمريكا وببناء الجدران (مجازيًّا وحرفيًّا).
ويدعم أردوغان لغته الخطابية باستقبال 3 ملايين لاجىء سوري، من خلال منحهم الرعاية الصحية المجانية والتعليم المجاني والدعم المالي. ببطء، يتم منح بعض هؤلاء اللاجئين الجنسية. واحدة من أعظم العقبات في الانتخابات المقبلة هو غضب بعض الناخبين الأتراك من تدفق اللاجئين. القومية القبيحة، أو حتى العنصرية، منتشرةٌ في العديد من المجالات. الكثير من الناس لن يصوّتوا لصالح حزب العدالة والتنمية أو أردوغان لأنهم ببساطة "سمحوا للسوريين بالدخول".
يلاقي الرئيس أردوغان هذا التحدي بتذكير الناس بأنهم الأنصار (مباركون لأنهم يستقبلون الناس المحتاجين). يذكّر الرئيسُ الشعبَ التركي بأن تدفق أمة جديدة، لغة جديدة، لن يجلب سوى ثقافة أكثر ثراءً، وفي الوقت المناسب سيكون هناك اقتصادٌ أكثر حيوية.
على الصعيد المحلي، كسبت القومية التركية التي يمثلها الرئيس أردوغان ملايين الأشخاص الذين لديهم ثقافة مختلفة ولغة مختلفة. ويتم تكريس قدرٍ كبيرٍ من الإنفاق العام لتحقيق التكامل.
على الصعيد الدولي، في الوقت الحاضر، تعد تركيا أكبر مانح للمساعدات الإنسانية في العالم. من خلال إرسال السلع والأموال إلى البلدان في جميع أنحاء العالم، دون القلق بشأن الانتماءات الدينية أو الوطنية للمستلمين، فإن تركيا قد وضعت نموذجًا لبقية العالم.
قال أوباما إنه يريد أن يصل بالاتحاد إلى الكمال، وبالتالي تنطلق ولادة الحرية على الأرض. يحاول أردوغان توجيه السفينة التركية عبر المياه الجيوسياسية العاصفة التي تقع فيها، محاولًا الحفاظ على توازنٍ بين الشرق والغرب، في محاولةٍ للحفاظ على العديد من المجتمعات المختلفة التي تشكل تركيا سعيدة، وفي الوقت نفسه، يمدُّ يد المساعدة لبقية العالم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس