كمال أوزتورك - صحيفة يني شفق – ترجمة وتحرير ترك برس
عندما تقوم بزيارة القاهرة لأوّل مرّة، فإنّك لن تستطيع أن تحبّ هذه المدينة للوهلة الأولى. فانعدام النّظافة في شوارعها وانعدام الأنظمة المروريّة، تُشعرك بأزمةٍ نفسية يصعب التّخلّص منها. وعندما تنظر إلى المنازل القديمة والأحياء المتداخلة والأزقّة المزدحمة المبنيّة بشكلٍ عشوائي، يُرغمك كل ذلك على أن تسأل نفسك عن أسباب ودواعي حبّ البعض لهذه المدينة.
النّيل قلب مصر وزينة القاهرة
وبعد أن تتجوّل في أزقّة وشوارع القاهرة التي تعجّ بالمارّة، يظهر أمامك نهر النّيل بكلّ عظمته وهو يقسم مدينة القاهرة إلى نصفين. حيث تقشعرّ الأبدان لرؤيته الخلّابة ويُدغدغ فلذات كبدك صوت جريانه، لتبدأ بالتّأمّل في عظمته المستمرّة منذ آلاف السّنين وكيف أنّه ينبع من الصّحراء القاحلة ليروي مناطق واسعة في القارّة الأفريقية ومن ثمّ يأخذ طريقه إلى البحر الأبيض المتوسّط. كما تتأمّل في الحضارات التي التفّت حول هذا النّهر لمئات السّنين. فلا بدّ لك أمام هذا المنظر الرّائع من وقفة إجلالٍ وإكبار أمام هذا النّهر العظيم.
فهذا النّهر العظيم، يعتبر القلب النّابض لمصر وزينة للقاهرة وعشقاً لسكّانِها.
وعندما تدخل في أزقّة القاهرة القديمة، ترى اللمسات السّحرية للحضارات التي عاشت على أرض هذا البلد، حيث يحملك ظلال المنارات التي بُنيت منذ عصور، إلى أجواء تلك الحضارات. كما أنّ كلّ الآثار الفنية والمعمارية الإسلامية، موجودة في جوامع وكليّات تلك الأزقّة الضّيقة. فالقاهرة مرآة للحضارة الأموية والعباسية والعثمانية. فهذه الحضارات لبست أجمل حليّها على أرض القاهرة.
ولا ننسى في هذا الصّدد الأهرامات الشّامخة منذ عهود طويلة، حيث تجمع في طيّاتها ذكريات معانات عبيد الأسيوط وجبروت الفراعنة بالإضافة إلى معالم الحضارات العملاقة التي أقيمت في هذه المنطقة.
الشّعور والحس المعنوي للقاهرة
تظنّ أنّ كلّ ما تمّ ذكره يكفي لكي تنبهر بهذه المدينة. لكنّ ما يُبهِر الزّائر شيءٌ آخرُ أعظمُ من كلّ هذا، فللقاهرة حسّ وعبق وروح وطاقة لا يمكنك أن تشعر بها للوهلة الأولى. ومع مرور أيّام تواجدك في هذه المدينة، تستطيع أن تلتقط هذا الشّعور الجميل.
كما أنّ لليالي القاهرة رونقاً آخر لا يُمكن وصفهُ بكلماتٍ بسيطة. فروائح الغازات التي تنبعث من السيّارات تترك مكانها لرائحة الورود التي تعمّ أرجاء هذه المدينة العظيمة. فالقاهرة وباختصارٍ شديد أمّ المدن والحضارات.
انت عمري
وعندما تُسند ظهرك إلى البحر الأبيض المتوسّط لتتأمّل تلاطم النّيل وتدافعه من أجل الوصول إلى مستقرّه الأخير في البحر الأبيض المتوسّط، يُطربك صوت أمّ الفن والطّرب أم كلثوم عندما تقول
"انت عمري
رجعوني عينيك لأيامي اللي راحو
علموني اندم على الماضي وجراحه
اللي شفته قبل ما تشوفك عينيه
عمرِ ضايع يحسبوه ازّاي عليا
اللي شفته اللي شفته
قبل ما تشوفك عينيه..عمري ضايع يحسبوه ازّاي عليا
انت عمــــــــــــري انت عمري
اللي ابتدا بنورك صباحه انت انت انت عمري"
وإلى جانب كلّ هذا، فإنّ القاهرة من أكثر المدن التي عانت الويلات عبر قرون طويلة. فشوارع هذه المدينة مليئة بالقهر والذّل والهوان والحزن ودموع الحسرة.
شوارعها تشهد الويلات في هذه الأيام أيضاً
في كلّ حقبةٍ تاريخية مرّت بها هذه المدينة، ظهر فيها فرعون جديد وموسى جديد. ففي شوارع هذه المدينة تُروَى قصص القتل والدّمار والظّلم والتّهجير والعصيان منذ سنواتٍ طويلة.
وإنّ نار الفوضى والعصيان بدأت مجدّداً بالتهام جماليّة هذه المدينة في هذه الأيّام. فترى النّزاعات والخلافات وحالات القتل قد تجدّدت في أزقّة أمّ الحضارات والمدن. وكلّ هذا نتيجة ظُلم الفرعون الجديد الذي حلّ على رأس الشّعب المصري. ومع استمرار الفرعون الجديد في طغيانه، بدأت الأنظار تبحث عن موسى جديد، يخلّصهم من ظلم وجبروت هذا الطّاغي. فأصوات الشّباب في ميدان رابعة الأعدوية وميادين أخرى، تعلو لتنادي بتحقيق ما خرجوا من أجله قبل أربعة سنوات، حيث تراهم يتساءلون عن سبب استشهاد المئات إن كان الوضع سيظلّ كما كان عليه قبل انطلاق الثّورة المباركة التي أطاحت بحسني مبارك.
تشهد شوارع القاهرة مظاهراتٍ في هذه الأيام، حيث يطالب شباب مصر بحقوقهم في الدّيمقراطية والحريّة وتسيل لأجل ذلك دماء كثيرة جرّاء آلة العنف المُستخدمة من قِبل الطّاغوت الجديد لكبت أصوات هؤلاء الشّباب.
أعرف جيّداً أنّ استعادة الحقوق التي اغتصبها الطّغاة ليست بالأمر السّهل، لكنّني أُدرك أيضاً أنّ شباب القاهرة لا يهابون الموت كما نهابهُ نحن.
وأعرف جيّداً أنّ القاهرة تُثمِّنُ دموعَ الحزنِ التي تَسيلُ من أعيُنِنا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس