ترك برس
التعايش بين أبناء الوطن الواحد، رغم اختلاف الآراء، هو أساس تقدم المجتمع واستقراره. فالانقسام والتوتر الذي قد ينشأ من تضاد الأفكار يمكن أن يهدد وحدة المجتمع على المدى الطويل. هذه الفكرة هي محور مسلسل "البراعم الحمراء" الذي يعرض على القنوات التركية منذ يناير 2023، ويستمر في موسمه الحالي الذي بدأ في ديسمبر 2023، حيث يعكس التحديات الاجتماعية في سياق درامي معاصر.
ويقول الكاتب والإعلامي المصري علي أبو هميلة، في مقال بموقع الجزيرة مباشر إن هذا العمل الدرامي يطرح أهمية الاستماع للآخر والتقريب بين وجهات النظر، فليست كل الأفكار خاطئة وغير قابلة للتطور، اختلاف الآراء يثري المجتمع وتلاقيها يجد طريق المستقبل، لا أحد منا يمتلك الحقيقة كاملة، وليست كل أفكارك صحيحة تماما، وليس ما يحمله الآخر من أفكار كلها أخطاء.
فليتسع صدر وعقل كل منا للآخر، وفي كل الأفكار هناك من يسيء فهمها وينتقي ما يتلاقى مع مصالحه، ويستخدم الاختزال ليقنع آخرين بأنه الصواب، وهذا ليس حكرا على فكرة محدَّدة أو أفكار معيَّنة، ويبقى أن الانغلاق على الأفكار وعدم تطويرها قد يصل بالمجتمع -أي مجتمع- إلى نهايات غير سعيدة، أفسِحوا العقول للأفكار فقد نجد مفرّا. وفقا للكاتب.
وفيما يلي نص مقال أبو هميلة:
التعايش بين أبناء الوطن الواحد مهما اختلفت الآراء بينهم ضرورة لتسير حياة المجتمع والوطن نحو البناء والتقدم، فالاعتقاد الراسخ بتضاد الأفكار وعدم التقائها قد يزرع في المجتمعات بذور الشقاق والخلاف التي قد لا نرى أثرها توا، لكنها تجعل المجتمع عرضه للانقسام والتوتر الدائم. يحدث هذا في كل المجتمعات حديثها وقديمها، متقدمها ومن لا تزال تصارع من أجل التقدم.
الفكرة السابقة هي محور واحد من أهم الأعمال الدرامية الاجتماعية التي قدمتها الدراما التركية على مدار عام منذ يناير/كانون الثاني الماضي، ولا تزال حلقاته تُعرض على شاشات القنوات التركية باسم (البراعم الحمراء). قدَّم موسمه الأول مع منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023، وكان عدد حلقاته 19 حلقة، وعرض في موسمه الحالي 11 حلقة، وما زال عرضه مستمرا.
حقق العمل في موسمه الأول نجاحا كبيرا، ووصفه جمهور الدراما التركية بأنه أحد أبرز وأخطر الأعمال التي تناولت أهم فكرتين تتصارعان في المجتمع منذ الثورة التركية عام 1923 حتى الآن، فالمجتمع التركي بدأ مع ثورة مصطفي كمال أتاتورك مرحلة جديدة في حياته بنهاية الخلافة الإسلامية واعتماد العلمانية دستورا للبلاد، وهي تعني فصل الدين عن السياسة.
بينما شهدت تركيا منذ أكثر من نصف قرن تحولات كبرى سياسية ودينية على يد مؤسسي حزب الرفاة التركي وقائده نجم الدين أربكان الذي تولى رئاسة الوزراء التركية لمدة عام منتصف التسعينيات، وعُرف أربكان بتوجهاته الإسلامية، ويُعد الأب الروحي لعدد من الأحزاب الإسلامية التركية على رأسها العدالة والتنمية الحزب الحاكم في تركيا الآن.
فكرة الدراما التلفزيونية (البراعم الحمراء) هو العبور بالتيارين الرئيسين في تركيا للمستقبل، وإمكانية اللقاء بينها في سبيل تقدم تركيا، وهو ما يميز الحوار الدائر بين أبطال العمل الدرامي، حوار فائق التميز، وهو ما يجعله يعبّر عن كل المجتمعات، ويعبر تركيا إلى مجتمعات أخرى.
عائلتان في المجتمع التركي، الأولى هي عائلة أحد علماء الفيزياء الأتراك سوافي الكانلي، العائلة لا تؤمن بالدين، وتنتهج العلمانية في حياتها، ومكونة من الأب عالم الفيزياء، ويعيش معه ابنه ليفانت طبيب أمراض نفسية، وابنته هاندا صحفية، ثلاثي يؤمن بعلمانية تركية، ولا مجال للدين في حياتهم، ويرون أن بعض الطوائف الدينية التي تمنع تعليم النساء وعملهن واختلاطهن جماعات متشددة.
على الجانب الآخر جماعة دينية تُسمى الفانون، وهي جماعة منغلقة على نفسها، لا يسمحون بتعليم البنات ولا عملهن، ويمنعون الاختلاط بين نسائهم مع المجتمع، وتتلاقى العائلتان من خلال قدوم أسرة مريم ونعيم إلى إسطنبول عقب زلزال فبراير/شباط الماضي (مصادفة التاريخ أم تميز مؤلف). وعن طريق بيرجول شقيقة نعيم المتمردة على الجماعة وتعمل مدرسة، ولعلمها أن ابنة مريم المفقودة منذ ولادتها نشأت وتربت في منزل ليفانت الطبيب، تدخل مريم وابنتها زينب إلى منزل عالم الفيزياء والطبيب كعاملة لديهم، وتلتقي الأفكار المتناقضة ومحاولة صعبة للتعايش بين الأفكار.
تتميز مريم وزينب ومعهما ليفانت بسعة أفق كبيرة، وقدرة على الاستماع للأفكار الأخرى، وبين قبول الآخر والتناقض يعيش الجميع، خاصة أن عائلة ليفانت تعجب بإصرار مريم على تعليم ابنتها زينب ذات الذكاء العلمي الحاد وضد رغبة زوجها، وعلاقة مريم بزوجها علاقة متناقضة، فقد تزوجت في سن الطفولة ولا ترى في زوجها إلا الجمود والتطرف، بينما يراها زوجها مجرد زوجة ويتعامل معها بشدة لرجاحة عقلها واعتزازها بنفسها.
الشرخ نفسه بين الطبيب وزوجته الطبيبة، ورغم قصة حبهما فإن الزوجة متمردة، لأنها ترى أن الابنة التي ربتها ليست ابنتها، وأن زوجها أخفى عليها أنه غير قادر على الإنجاب. وتستمر الدراما فتكتشف عائلة الطبيب أن مجتمع الفانون ليس كما تراه، والطرف الآخر تتغير وجهة نظره في العائلة العلمانية.
في مجتمع الفانون هناك من يتعامل مع المجتمع ويتمتع بأفق واسع وقراءات ممتازة علميا وأدبيا، مثل جنيد حفيد مرشد الجماعة والمرشح مرشدا من قِبل جده، نموذج شاب للقارئ الفاهم الذي يعرف في العلم والثقافة والأدب، يعرف علماء المسلمين وعلماء الغرب، يقرأ الفلسفة والعلوم الإنسانية، ويعاني جنيد مرضا نفسيا لأن والده رسخ داخله أنه سبب في انتحار أمه، ويذهب للعلاج عند الطبيب ليفانت من مرضه النفسي، عن طريق عمه سعدي هدائي الذي رباه بعد وفاة أمه ورحيل أبيه، وتلتقي زينب مع جنيد وتنشأ مشاعر بينهما، تلك المشاعر الناتجة عن الفهم والإدراك لدي جنيد والطموح والذكاء لدى زينب.
يلتقي ليفانت العلماني مع جنيد المتدين، ويبدأ الكثير من الحوارات عن أفكار كل طرف منهما وما يمثله، يلتقيان في أنه ليس كل طرف منغلقا على فكرة معيَّنة، فالأطراف من الممكن لقاؤها وتطوير الأفكار، الواقع أن المسلسل قدَّم من الفانون العديد من الشخصيات التي غيرت وجهة نظر عائلة ليفانت في المتدين، مثل مريم وبيرجول وزينب وجنيد وسعدي.
بجوار هؤلاء هناك المتشددون مثل نعيم، وأيضا من يستخدم الدين للحصول على المصالح مثل عبد الواحد والد جنيد الذي يتعامل مع جماعة غامضة تدعمه من أجل أن يكون مرشدا، ويكوّن مجموعة تستخدم العنف تُسمى (اللاإرادية)، ولكن بتعاون جنيد وليفانت ينجحان في التخلص من عبد الواحد.
الحوار الذي يدور بين طرفي المعادلة -مريم/ليفانت، مريم/سوافي، ليفانت/زينب، ليفانت/جنيد- حوار راقٍ، فكل طرف يحاول إقناع الآخر بأنه الحق والحقيقة، ويحاول جنيد وزينب الوصول مع ليفانت وعائلته إلى عدم تناقض العلم والدين وإمكانية تكاملهما، وأنه لا مفارقة أو اختلاف يجعل الطرفين متناقضين، تتداعي الأحداث فيتكامل ليفانت مع مريم بالزواج الذي تم في البداية على أساس حماية ابنتيها زينب وميرا التي تربت في منزل علماني، ويتكامل جنيد وليفانت في التصدي للأفكار المتشددة.
تبدو سعة أفق جنيد وزينب طريقا في تغيير الجماعة بما يتناسب مع العصر، وتحاول مريم الحفاظ على ابنتيها خاصة ابنتها التي تربت في منزل ليفانت وترفض ملابس أمها وأدعيتها، وآيات القرآن التي ترددها دائما، فهناك تناقض بين طفولتها وما آلت إليه، كل هذه الأحداث تتم من خلال حوار راقٍ مدروس فيه كل أفكار الطريقين/الطرفين، والمتابع له لا يستطيع أن يغفل عن جملة بين المتحاورين خاصة في الأفكار التنويرية.
شهدت حلقات العمل الدرامي الأولى صراعا كبيرا من أجل استمراره، واتُّهم العمل بنشر أفكار تتناقض مع المجتمع التركي وتتنافى مع قيمه وتقاليده، فقد بدأ العمل صادما في نقده للجماعات الدينية التي تنتشر كثيرا في تركيا، وخاصة المتصوفة ذات التاريخ الطويل في تركيا، أُوقِف العمل لأسابيع، لكنه عاد محققا نجاحا باهرا.
العمل تأليف شكري نجاتي شاهين، ويُحسَب له هذا الجهد الكبير في الاطلاع وتقديم حوار راقٍ بين طريقين للتفكير ومنهجين للعمل، ومحاولة اللقاء بين أبناء شعب ليتكامل العلم والعقيدة أو العلمانية والدين لبناء المستقبل.
العمل يطرح أهمية الاستماع للآخر والتقريب بين وجهات النظر، فليست كل الأفكار خاطئة وغير قابلة للتطور، اختلاف الآراء يثري المجتمع وتلاقيها يجد طريق المستقبل، لا أحد منا يمتلك الحقيقة كاملة، وليست كل أفكارك صحيحة تماما، وليس ما يحمله الآخر من أفكار كلها أخطاء، فليتسع صدر وعقل كل منا للآخر، وفي كل الأفكار هناك من يسيء فهمها وينتقي ما يتلاقى مع مصالحه، ويستخدم الاختزال ليقنع آخرين بأنه الصواب، وهذا ليس حكرا على فكرة محدَّدة أو أفكار معيَّنة، ويبقى أن الانغلاق على الأفكار وعدم تطويرها قد يصل بالمجتمع -أي مجتمع- إلى نهايات غير سعيدة، أفسِحوا العقول للأفكار فقد نجد مفرّا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!