بيرات البيرق - فورين بوليسي - ترجمة وتحرير ترك برس
في آب/ أغسطس من هذا العام، أصبح اقتصاد تركيا المادة الرئيسية في التغطية الإخبارية العالمية، بسبب الهجوم المنهجي الذي تعرض له الاقتصاد التركي من قبل الولايات المتحدة، أكبر لاعب في النظام الاقتصادي العالمي. كان هذا الهجوم من أكثر اللحظات المخيبة للآمال في تاريخ التحالف بين تركيا وأمريكا، إذ هاجمت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، علانية اقتصاد بلدًا حليفًا في حلف الناتو بالعقوبات والرسوم الجمركية.
وإذا كان حجم هذه الهجمة قد أدى إلى تقلبات في أسعار الصرف، فإنه أظهر في النهاية الأسس القوية للاقتصاد التركي، كما أنه زاد من عزم تركيا على تقوية اقتصادها عبر الإصلاحات الهيكلية، والشراكات التجارية الجديدة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، واتخاذ خطوات لإعادة توازن بنية الاقتصاد الدولي، بحيث لا تملك الدول القوية، مثل الولايات المتحدة، القدرة من جانب واحد على عرقلة الحياة الاقتصادية للآخرين.
على مدى أكثر من ستة عقود، كانت تركيا في طليعة التصدي للتهديدات الكبرى التي تتعرض لها الدول الغربية. وقد شمل هذا في السنوات الأخيرة الحرب على المنظمات الإرهابية، مثل تنظيم القاعدة وما يسمى تنظيم الدولة (داعش). وخلال هذه الفترة أصبحت تركيا أملا لملايين اللاجئين الذين يفرون من النظام الوحشي في سوريا، وهدفا للمنظمات الإرهابية التي تريد توسيع نطاق الحرب في تركيا لتصل إلى الغرب. ورغم ذلك أصبحت تركيا واحة استقرار في واحدة من أكثر المناطق المضطربة في العالم.
عندما وقّعت إدارة ترامب عقوبات على تركيا، تذرعت بحجة واهية لقضية ما تزال أمام القضاء تتعلق بمواطن أمريكي على صلات قوية بأنشطة إرهابية تستهدف سلام تركيا واستقرارها. كانت الآثار الناجمة عن العقوبات الأمريكية كبيرة، حيث جاءت في وقت يمر فيه الاقتصاد التركي بتقلبات سريعة. مثّل استخدام واشنطن الوقح للأسلحة الاقتصادية دعوة ليقظة كثير من الدول والمستثمرين في جميع أنحاء العالم. واعتبر هذا إجراءً خطيرًا، ليس لمستقبل التحالف بين تركيا والولايات المتحدة فقط، بل للأسواق العالمية أيضا. وفي الوقت نفسه أثبتت استخدام الولايات المتحدة للتعريفة الجمركية من جانب واحد ضد شركائها التجاريين في أوروبا وروسيا والصين، أن التجارة الدولية والتعاون والاستقرار ينبغي أن يكون آمنًا من خلال تحالف أقوى بين دول العالم، وقد يتطلب اتخاذ إجراءات مضادة لمنع حدوث ضرر كارثي للنظام المالي العالمي والتجارة الدولية.
في خضم هذه الأزمة االمصطنعة التي خلقتها الولايات المتحدة، كانت الحكومة التركية تشعر بالارتياح لرؤية فرص جديدة واعدة لمستقبل الاقتصاد الدولي، حيث أدلى أصدقاؤنا الأوروبيون، ومن بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بتصريحات تؤكد بوضوح أنهم يدركون أن نهج واشنطن خطير وخاطئ. وهكذا تم إحياء روح التعاون والتضامن بين تركيا والاتحاد الأوروبي، بعد أن ثبتت أهميتها للرفاهية السياسية والاقتصادية لكلا الجانبين.
لقد أثبت الاقتصاد التركي قوته في مواجهة كل الدعاية السلبية، والهجمات على نظامه المالي .ومن المهم التأكيد على أنه لا توجد مؤشرات اقتصادية أو بيانات الاقتصاد الكلي يمكن أن تفسر انخفاض قيمة الليرة التركية خلال الشهر الماضي، إذ لم تشهد الهيكلية المالية والنظام المصرفي في تركيا أي تغييرات جوهرية خلال هذا الوقت.
تلتزم الحكومة التركية بخلق بيئة صديقة للمستثمر. ولتحقيق هذا الهدف اتخذت خطوات لمعالجة كثيرمن نقاط الضعف الاقتصادية لمنع نقاط الضعف المحتملة في المستقبل. سوف تنسق تركيا وتوازن سياساتها النقدية والمالية بمزيد من التصميم. وستراقب النظام المالي الذي كان المحور الأساسي لاقتصادنا بدقة في السنوات القادمة. نحن مصممون أيضا على تنفيذ الإصلاحات الهيكلية في الوقت المناسب. وقد بدأنا بالفعل تنفيذ سلسلة من الإجراءات لتوفير التكاليف في وزارات الحكومة كافة، ونعمل على تحقيق معدلات نمو أكثر استدامة عبر تدابير الاقتصاد الكلي الاحترازية.
ومثلما كان الحال في السنوات الست عشرة الأخيرة في ظل الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية، سيظل استقلال البنك المركزي التركي وفعاليته ودوره القيادي في السياسة النقدية من أولويات الحكومة. سنواصل دعم البنك المركزي من خلال السياسات المالية وتعزيز هامش حريته ومصداقيته. من المهم أيضاً التأكيد على حقيقة أن تركيا لم تطبق قط قواعد تتعارض مع مبادئ السوق. ولا يمكن لأي أزمة أو هجوم مالي أن يضعف التزام تركيا بتلك المبادئ. لم نفكر قط في فرض ضوابط على حركة رأس المال، ولن نفكر أبدًا في المستقبل. وكما أكدت الحكومات الأوروبية، فإن النظام المصرفي التركي يتمتع بمستوى جيد، ولا يتعرض لانكشاف مركزه بالعملة الأجنبية. يتمتع القطاع المصرفي بالقدرة على إدارة التقلبات الحالية، ولن تتردد الحكومة في دعمه كلما دعت الحاجة.
ليس على جدول أعمالنا اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، على عكس ما اقترحه البعض، بل ستواصل تركيا تأمين احتياطيات العملات الأجنبية من الأسواق الدولية مثلما فعلت حتى الآن. هدفنا هو ضمان استمرار تركيا في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، وأن نصبح مركزًا للابتكار والبحث والتطوير للاقتصاد العالمي. تبلغ نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في تركيا نحو 28%، بينما يبلغ متوسط هذه النسبة 49% في الاقتصادات الناشئة، و111 في المئة في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وعلاوة على ذلك، فإن نصيب الأسرة من الدين العام في تركيا 17%، أي أقل بكثير من المتوسط في الدول المتقدمة الذي يبلغ 36%، ويبلغ 59% في جميع أنحاء العالم. يبلغ معدل الدين الإجمالي 137٪ في تركيا، و211٪ في الاقتصادات الناشئة، أما المتوسط العالمي لهذه النسبة فيبلغ 318%. وهذه المؤشرات كلها تشير إلى أن تركيا ستخرج قريباً أقوى من مشاكلها الحالية. وإنني على ثقة من أن التحدي الحالي الذي يواجهه النظام المالي التركي يقدم لنا فرصة كبيرة لتعزيز هيكل الاقتصاد العالمي ووضعنا فيه.
ليست تركيا الدولة الوحيدة التي استهدفتها الولايات المتحدة أخيرا بفرض عقوبات تحت ذرائع سياسية. وهذا النهج الأحادي يهدد الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات النامية على حد سواء. ومن الواضح أنه من مصلحة معظم البلدان أن تتعاون في مناهضة القرارات الاقتصادية الأحادية التي تتخذها الجهات الفاعلة القوية التي تحركها المصالح الوطنية الضيقة، لا سيما في وقت تتكامل فيه اقتصادات العالم مع بعضها بعضا على نحو غير مسبوق.
يواجه العالم تحديات خطيرة، وتشكل تهديدات واشنطن للاقتصاد الدولي والتجارة الدولية مجموعة كبيرة من هذه التحديات، بحيث يجب على العالم أن يتعامل معها على نحو جماعي. إن العقوبات الأحادية، والتحريض على الحروب التجارية، والاستخدام العشوائي للأسلحة الاقتصادية يمكن أن تؤدي إلى أزمة اقتصادية عالمية أخرى. وفي هذا المنعطف الحرج تحتاج الاقتصادات المتقدمة والنامية في جميع أنحاء العالم إلى تعزيز التعاون القوي والمؤسساتي للتعامل مع الأزمات والهجمات المالية المحتملة. يجب النظر إلى الهجوم على الاقتصاد التركي بوصفه مثالاً على كيفية الاستخدام غير المنطقي للضغوط الاقتصادية كسلاح سياسي يمثل مخاطر عالمية جدية. يمكن للدول الأخرى من خلال العمل مع تركيا في الوقت الحالي أن تساعدها في وضع استراتيجية مشتركة لتجنب الأزمات المصطنعة في المستقبل.
ستتخذ الحكومة التركية في الوقت الحالي إجراءات لإحراز مزيد من التعاون والتنسيق مع الدول الأخرى في جميع أنحاء العالم مع تحديد نقاط الضعف في اقتصادنا. سوف نعمل دون تردد للقضاء على جميع أنواع المخاطر الاقتصادية. إن تصميمنا يتيح فرصة للتعاون الاقتصادي والسياسي الأعمق والأكثر فائدة للجانبين. لذا يجب علينا اغتنام هذه الفرصة وبناء مستقبل اقتصادي مستدام.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس