علي الصاوي - خاص ترك برس
في أواخر عام 1999 ضربت موجة حادة من التفجيرات الإرهابية 4 مجمعات سكنية في روسيا، "بويونكسك، موسكو، ثم فولجودنسك"، وتجاوز عدد الضحايا 300 مواطن روسي، وكان التفجير الخامس علي وشك الوقوع، بعد أن تقدم 3 أفراد ومعهم جوال ليضعوه أسفل عقار سكني في "رايزان" على بعد 300 كم من العاصمة موسكو، لكن قبل التنفيذ رأتهم سيدة روسية وتعالت صيحات صراخها حتى جاءت الشرطة وبدأت تلاحق السيارة التي تُقل الإرهابيين.
كانت الأجولة تحوي مادة ‘‘الهيكسوجين‘‘ القابلة للانفجار، لكن موسكو أفرجت عن الإرهابيين الثلاث، وادعى رئيس الاستخبارات بوكاتشيف أن الأجولة كانت معبأة بالسكر وليست مواد متفجرة!
الحقيقة أن الإرهابيون الثلاث لم يكونوا سوى ضباط استخبارات روسية، ومن بعدها لم تنفجر أي شقق سكنية، لكن الذي انفجر وقتها كان حرب الشيشان الثانية، التي ستمهد الطريق لبوتين كي يصل إلى حكم روسيا، فمن أجلها افتعل هذه الأعمال الإرهابية.
لكن بوتين لم يهنأ كثيرا بمخططه الإرهابي، بعد أن فضح خطته ضابط استخبارات روسي منشق اسمه "ألكسندر ليتفينكو" هرب إلى لندن وهو أول من كشف عن ضلوع موسكو في التفجيرات الإرهابية لتبرير حرب الشيشان ووصول بوتين للسلطة، وقد قال ذلك في كتابة " تفجير روسيا.. الإرهاب من الداخل": "إن جهاز الأمن الفيدرالي كان وراء تفجير الشقق السكنية الروسية التي سبقت الهجوم على الشيشان، ولم يكن تاريخ 24 أيلول/ سبتمبر عام 1999 مصادفة"، وهكذا وصل بوتين للحكم على أنقاض عظام الأبرياء لإرضاء غروره الكاذب وإشباع عطشه للدماء.
عندما تقلب صفحات التاريخ وتربطها بالواقع الذي نعيشه الأن تجدها متشابهة إلى حد كبير، أنظمة مستبده تحترف صناعة الفاشية وسياسة التخويف لإرهاب الشعوب، لتثبت أركان حكمها، وضحايا أبرياء يدفعون ثمن جنون عظمة الطغاة، ولا شيء وراء ذلك سوى كرسي الحكم.
لا حرج من تعليق المواطنين على أعواد المشانق وسحلهم في الطرقات وقتلهم في السجون، وبيع الأرض وهتك العرض، وقطع شجرة الوطن من أجل ثمرة الحكم، كل شيء مستباح في شرع الطغاة طالما يمهد الوصول للسلطة، والمبررات حاضرة ومشرّعنة بختم مُفتٍ ضالّ، أو عالمٍ يُدمن فتات الموائد.
على مسرح الوطن الأسير، وقف الطاغية بكِبر واستعلاء يسفّه من الوطن والمواطنين، وينصح الآخرين بعدم النظر إلينا بعين أوروبية متحضرة، لأن المواطنين مجرد أشباه بشر في نظره، يعيشون في شبه دولة هو من صنعها بفساده واستبداده، يرى شعبه عالة على الإنسانية ولم ينضج بعد لتقبل فكرة الديمقراطية، لا يتردد في تحقيره وإهانته والبخس من قدره، هكذا يراهم، ومن منطلق هذه المكانة المتدنية، بسط يده على كل شيء بأذرعته الأمنية وأبواقه الإعلامية، أسكت الأصوات وكتم الأنفاس وقصف الأقلام، كي لا صوت يعلو فوق صوته. لا يهمه حب أو كراهية شعبه، لكن الأهم عنده رضا المستعمر والوفاء بتوصياته وتنفيذ خططه. رافعا مبدأ ميكافيللي "من الأفضل أن يهابك الناس على أن يحبوك".
هكذا يعيش الوطن، مكبلًا في أسر ومكر الشيطان الأكبر، الذي لا يكف عن هدمه وإفساده، يقتل خارج إطار القانون، بل خارج إطار المراقبة، يزرع الخوف في صورة أعداء، صنعهم بنفسه كي يتخذهم ذرائع لبسط هيمنته على كل ساكن ومتحرك، وكلما زاد صمت الشعب اشتد هو في بطشه وإجرامه، وما ترك أحدًا إلا وطوّق حياته بسياط المراقبة، يلتف على عنقه فيخنقه ويشل حركته، كي يسير المواطن في الطرقات يخشي من خياله، ولا يجرؤ على الهمس في أذن صاحبه، مستخدما في ذلك نبؤة "جورج أوريل" أن "الناس مولعون دوما بنسج الأساطير حول قدرات وأنشطة الأمن السرية."
وفي ظل تلك الأجواء الداخلية الموحشة والمسمومة بالظلم والقهر، ينمو في الخارج اتجاه فاشي شعبوي مستبد، لا يتأخر في تقديم كافة الدعم لترسيخ أركان الأنظمة السلطوية واستقرارها في المنطقة، لإجهاض أي تمرد محتمل في المستقبل، وإخماد روح الربيع العربي في نفوس المواطنين كي لا تتجدد نيرانه وتأكل عروش ما تبقى من عملائهم في المنطقة.
إن المواطن في بلاد الظلم والاستبداد مجرد مشروع قتل أو اعتقال أو إرهاب أسود صنعه الطاغية ليستمد منه بقاءه، أو فكر متطرف يأخذه نحو طريق اللاعودة، إن الاستبداد بيئة خصبة لنمو الإرهاب واحتضانه حيث يجد ضالته وذرائعه التي يقتل ويفسد باسمها، فالبيئات التي تستمتع بقدر كبير من الحرية لا تنمو فيها سوى الإنسانية والفكر المعتدل، وملكات الإبداع التي تصرف جُل وقتها نحو الإنتاج والعمل والسعي إلى التميّز، فالإرهاب ينتهي حين يموت الاستبداد وتبدأ الحريات ترفرف في سماء الوطن، ويشعر المواطن أنه سيد وطنه وليس مجرد عبد تُهان فيه كرامته وتنتهك حقوقه ويُعلّق على أعواد المشانق.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس