علي الصاوي - خاص ترك برس
يُطلَق مصطلح التكلفة الغارقة في الاقتصاد على التكاليف التى صُرفت على مشروع اقتصادي أو قرار معين اتخُذ ولم يُحقق أى مكاسب مع صعوبة استعادة تلك التكاليف مرة أخرى، حيث يظل المستثمر متمسكا بمواقف وقرارات قد تؤثر عليه سلبا لكنه لا يتراجع عنها بسبب التكلفة الكبيرة التي أنفقها في بادئ الأمر ولا يمكن استرجاعها أو تعويضها، كمن يستمر في مشاهدة فيلم سينمائي ثم يدرك بعد دقائق أنه ردئ ومع ذلك يستمر في متابعته كى لا يشعر أن الدقائق التى بذلها في المشاهدة ذهبت سُدى، فيستمر موقنا أن النهاية ستكون سخيفة ودون المأمول.
ويبدو أن المعارضة التركية تعيش تكلفة سياسية غارقة مع المرشح الرئاسي كمال كليجدار أوغلو، وما استمرارهم في دعمه إلا نوع من أنواع القصور الذاتي أو دعم تحت شعار "نحن معك لآخر الشوط بدافع الواجب رغم علمنا بشكل النهاية" خاصة بعد النتائج المخيبة للآمال في انتخابات الجولة الأولى.
ضجّت الساحة السياسية التركية في الأيام الماضية بتصريحات لكل من الرئيس أردوغان وتحالفه، والمرشح الرئاسي كليجدار أوغلو وتحالفه، عكست شكل التنافس القادم في جولة الإعادة بين خطابين سياسيين، الأول خطاب سياسي حكيم هادئ ومُحدد يَنمّ عن فهم وقوة ومشروع حقيقي، والثاني خطاب سياسي عنصري سمته العشوائية ويَنمّ عن ضعف وتخبط وجهل بمستويات الخطاب السياسي ومشروع فاشي، فأخطاء المعارضة التركية بعد الجولة الأولى كفيلة بسحب بساط الثقة من تحتها وإدخال حاضنتها الشعبية في حيرة ويأس لضعف قادتها وتشويش أفكارهم وضبابية رؤيتهم السياسية وبدلا من استمالة المواطنين بوعود حقيقية أكثر جذبا من وعود منافسهم القوي أردوغان، لجأوا قبل الانتخابات إلى الكذب والاحتيال والبروباجندا، وبعدها إلى التحقير والإهانة لكل مَن صوّت للرئيس أردوغان كما حدث مع الأهالي في مناطق الزلزال، فالضربة الأولى في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أفقدتهم تماسكهم وقضت على أهم مشاريعهم السياسية، وأصبح كل واحد منهم يُغرّد وحيدا بتصريحات يائسة أنهم مستمرون ومتحدون، كرجل على حافة الموت يتمسك بالحياة رغم التفاف حبل المشنقة حول عنقه لكنه يتكلم بصوت مبحوح ويقول: سأظل حيا.
أخطأت المعارضة التركية حين اعتمدت على خطاب سياسي حجري بائس عفا عليه الزمن وإن كان يروق لكثير من مؤيديها إلا أن الزمن قد تغير وتغيرت معه تطلعات الناس وآمالهم، وإن لم تواكب الدعاية السياسية حداثة الظرف الزمني والمتغيرات الاجتماعية والإقليمية، وراعت تقلب الأجيال جيلا بعد جيل كانت جوفاء كالقصبة، ولن تؤثر في الناخب وإن شعر بالانتماء إليها بعض الوقت، فعقلية حزب الشعب الجمهوري لم تتغير منذ 70 عاما فما زالت الإيديوجية البحتة هى محور الصراع بعيدا عن البرامج الخدمية التى تلبي حاجة المواطن وتدفع بمعيشته لمستوى أفضل، وتحضرني قصة قالها دولت بهجلي زعيم حزب الحركة القومية بعد الانقلاب عندما اجتمع الرئيس أردوغان بقادة الأحزاب السياسية وشدّد على ضرورة مواجهة هذا الخطر الذي يهدد استقرار الحياة السياسية ويقضي على الديمقراطية، حينها انتفض رئيس حزب الشعب الجمهوري كليجدار أوغلو وقال لأردوغان مغردا بعيدا عن سياق الموضوع: يوجد في منطقة كاديكوي أربع مدارس إمام وخطيب فما الداعي لإنشاء مدرسة خامسة؟
حكاية بسيطة تعكس حقيقة الجمود الذي ما زال يعيش فيه حزب الشعب الجمهوري وقد تكون تكلفته باهظة بعد هذه الانتخابات عبر إحداث تغيرات كبيرة في أغلب كوادره السياسية ووضع استراتيجية جديدة أكثر مرونة لاستيعاب الآخر وتبني لغة خطاب معتدلة ومقنعة، فرغم إيديوجية حزب العدالة والتنمية المحافظة إلا أن خطابه السياسي لم يتأثر بها فهو يُقدم نفسه كحزب جماهيري يخدم جميع الأتراك بلا إقصاء أو تمييز ولا يتعهد إلا بتنفيذ ما فيه صلاح البلاد وتحقيق رؤية الأمة التركية.
الخطاب الواضح للرئيس أردوغان أكثر انسجاماً مع المزاجية القومية إذا قارناه بخطاب كليجدار أوغلو الذي يتغيّر بتغيّر الظروف الانتخابية والسياقات السياسية فيظهر مضطربا فاقدا للثقة، إضافة إلى ثبات الرئيس أردوغان على المبدأ وإن كانت كل المعطيات ضده عكس حزب الشعب الجمهوري الذي أظهر تناقضات وتلون عجيب قبل الانتخابات وبعدها، فلا قيم تحكمه ولا ثوابت تضبط سياسته، المهم الحكم بأى ثمن وهذه سياسة قد تُثير الحماس والاستقطاب مؤقتا، لكنها ليست آمنة في ظل وجود خصم قوي ومنظم كحزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان الذي أقنع الجميع بأدائه وخطابه السياسي وإن خالفوه، فكثير من المواطنين لا ينكرون جهده ولا ينتقصون من قدره وإن صوتوا لغيره من أجل التغيير.
لم يبق سوى حلفاء كليجدار أوغلو الذين نسجوا معه تحالفا أشبه ببيت العنكبوت ليس لمصلحة تركيا بل لمصالحهم الشخصية لذلك لن يطول كثيرا هذا التحالف لأنه يحمل في داخله آفة زواله.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس