د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
خرقت قوات النظام السوري بالتنسيق مع حلفائها الروس كل اتفاقيات إدلب الثلاثية وتفاهمات سوتشي الثنائية وعاودت في الأيام الأخيرة قصف المدنيين برا وجوا مما أسفر عن سقوط العشرات وفتح الطريق أمام موجات نزوح جديدة يريدها البعض أن تتحول إلى حركة لجوء واسعة باتجاه المناطق الحدودية لإرباك القرار التركي وإضعافه هناك.
تتحمل مجموعات " النصرة " جزءا كبيرا من مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التوتر لكن النظام وشريكيه الروسي والإيراني يريدان من خلال محاولة إشعال فتيل التفجير في إدلب، قطع الطريق على أي تحرك لقوى المعارضة نحو العواصم الغربية وإفشال المباحثات الأخيرة التي جرت في بروكسل.
يدعو عبد الرحمن مصطفى، رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، للحفاظ على اتفاق إدلب وتفعيل العملية السياسية بإشراف كامل من الأمم المتحدة “، لكن حسابات الحقل والبيدر قد لا تتطابق، فالعراقيل والشروط والاستفزازات المتواصلة تدفع الأمور نحو مسار الانفجار الأوسع الذي يقترب ساعة بعد ساعة.
كيف يمكن الجمع بين ما يقوله وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، عزم بلاده على مواصلة العمل مع روسيا نحو إنشاء مركز تنسيق مشترك في إدلب وتسيير دوريات عسكرية تركية وروسية في المدينة ومحيطها وبين مطالبة موسكو لأنقرة بفعل المزيد لأن اتفاق سوتشي لا ينفذ ويعطي المجموعات الإرهابية المزيد من الفرص والوقت؟ ألن يؤدي التردد والتأخر التركي في إدلب إلى تعريض خططها في غصن الزيتون ودرع الفرات إلى المخاطر وربما الكوارث الميدانية الأكبر؟
هل تنفع تبريرات أن الحالة في إدلب تختلف عن بقية المناطق الحدودية وأن الغطاء القانوني في العمليتين التركيتين يختلف عنه في موضوع إدلب؟ وأن دخول القوات التركية في أية مواجهة عسكرية مع النصرة سيتركها أمام انفجار حدودي أوسع؟ وأنه لا يمكن لأنقرة الدخول في مواجهة من هذا النوع يكون طرفها الآخر روسيا وإيران والنظام وحلفائهم؟ وأن تعطي تركيا البعض في المنطقة ما يريده من دخولها في أكثر من مواجهة على أكثر من خط تربكها في سوريا وتعقد حساباتها الإقليمية؟
ما هي السيناريوهات المحتملة في إدلب وجوارها بعد الآن وما هي فرص تحقيقها؟
نظريا الخيارات الأبرز تتراوح بين دخول القوات الروسية والإيرانية المنطقة بهدف محاربة الإرهاب بعدما فشلت أنقرة في ذلك وهذا يعني تسليم هذه المناطق لقوات النظام. وبين حدوث عملية عسكرية تركية روسية واسعة لإخراج مجموعات النصرة من المشهد بعد وصول كل المحاولات التركية لإنهاء الأزمة بشكل سلمي. أو محاولة إبقاء الأمور على ما هي عليه بانتظار صناعة التفاهمات السياسية الأوسع في مسار الأزمة السورية. لكن التطورات الميدانية والسياسية المتلاحقة تكاد تقول شيئا آخر.
تحاول أنقرة طرح مبادرات وخطوات ميدانية عسكرية جديدة بينها التفعيل السريع لقرار تسيير الدوريات التركية الروسية في إدلب وإنجاز خطة إنشاء المنطقة العازلة لكن النظام والروس وكما يبدو لن يتخليا عن الورقة الرابحة التي منحتها لهما المجموعات المتشددة في المنطقة خصوصا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بيان "هيئة تحرير الشام"، الذي يحثّ فيه مقاتليه على "الثأر"، ومطالبة المدنيين في إدلب بـ "الصبر" والاستعداد للمعركة القادمة. وهذا يعني أن النصرة لن تحل نفسها ولن تترك السلاح والشعارات والأفكار التي تطرحها.
موسكو تريد إسقاط أكثر من عصفور بحجر واحدة في إدلب: محاصرة الجميع بورقة النصرة حيث تطالب أنقرة بإنهاء هذا الملف مبررة ذلك بأنه يمنح طهران الفرص للتصعيد واختراق ساحة التفاهمات هناك على حسابها، وهي تسعى لتحريك الاتفاقيات السياسية مع تركيا مثل موضوع تشكيل اللجنة الدستورية وتضييق الخناق على فرص العواصم الأوروبية وواشنطن للدخول مجددا على خط الأزمة السورية وإثبات قدرتها الميدانية على عرقلة ما لا يعجبها ويعطيها ما تريده كما فعلت مؤخرا في إدلب عندما حركت مقاتلاتها بعد نحو عام من الهدنة والتريث.
ورطة أنقرة كبيرة هنا حيث تزداد الأمور تشابكا وتعقيدا وتكاد تطيح باتفاق سوتشي الذي جنب إدلب الكارثة لكنه لم يبدد أسباب تجدد الانفجار في أية لحظة. فوحدات النظام وإيران والنصرة متمسكة بأصابعها فوق الزناد وهي تقول أن سوتشي لا يعنيها وسط استمرار التعبئة والحشد العسكري. ثم هناك العديد من العواصم الإقليمية التي تسعى لتفجير الوضع في إدلب بهدف إضعاف تركيا في الملف وفتح الطريق أمام التأزم التركي الروسي من جهة وبين أنقرة وحلفائها المحليين من جهة أخرى.
هل سيكون هناك فعلا عملية عسكرية تركية روسية مشتركة في المنطقة ولماذا تأخرت حتى الآن طالما أن مواقف الجماعات المتشددة هو واضح ومعروف وطالما أن وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو يقول إن بعض الشركاء في التحالف يدعمون هيئة تحرير الشام أولا من أجل إلحاق الضرر باتفاقية إدلب، وثانيا لأن هذه الدول تبذل جهودا كبيرة لمنع تشكيل اللجنة الدستورية في سوريا؟
حقيقة أخرى ينبغي أخذها بعين الاعتبار وهي أن دخول واشنطن مجددا على خط الأزمة السورية أربك الحسابات التركية الروسية وقد يدفع موسكو لبحث الملفات السورية مع أميركا نفسها إذا لم تحصل على ما تريده من أنقرة التي تتأخر في حسم موقفها رغم الضوء الأخضر الروسي لتركيا في شرق الفرات مقابل إنهاء مشاكل غربه.
سيناريوهات التصعيد العسكري سيرافقها حتما احتمالات انتقال مئات الآلاف من المدنيين نحو الحدود التركية السورية وربما قد تفتح الطريق أمام إشعال مواجهات عسكرية أكبر، وتركيا متمسكة برفض الحل العسكري لكن تعقيدات المشهد تعكس حقيقة أن تركيا تتقدم نحو نقطة الخيارات الضيقة والتي لا مهرب منها.
قد تكون أنقرة نجحت إلى حد ما في إقناع الروس والإيرانيين بمنحها المزيد من الوقت لإقناع النصرة بالتخلي عن أساليبها ومواقفها، لكن تعقيدات الأمور ميدانيا وسياسيا تعكس حقيقة عدم الوصول إلى الحل النهائي وفشل الجانب التركي في إسقاط احتمال العملية العسكرية الروسية الإيرانية عبر النظام مما يتركها هي أمام بديل التحرك العسكري لقطع الطريق على دخول قوات النظام المنطقة وإخراج حلفائها المحليين من المشهد جنبا إلى جنب مع المجموعات المتشددة.
مسألة أخرى لا يمكن إغفالها وهي أن احتمال المواجهة العسكرية المباشرة بين قوات النظام والقوات التركية في إدلب ما زالت قائمة وهذا ما تريده مجموعات النصرة والعديد من العواصم مما يعرض الجانب التركي لمخاطر ارتدادات أمنية وسياسية واسعة في التعامل مع الملف السوري. كيف سيكون الخيار التركي هنا قبول مغامرة التحدي والمواجهة مع النظام وحلفائه أم الانسحاب وترك الساحة وأنقرة تعرف هنا أن المستهدف هو حليفها الجيش السوري الحر قبل أن يكون مجموعات النصرة؟
أنقرة تدرك جيدا أن بقاءها أمام طاولة إدلب مرتبط مباشرة بما ستقرره قريبا بين خيار إعلان الحرب على النصرة بالتنسيق مع الروس أو ترك النظام والروس والإيرانيين يتقدمون عسكريا والكلفة عندها ستكون أكبر على حساباتها ومصالحها وتحالفاتها هناك.
البديل الأقرب قد يكون موافقة أنقرة على دعم قوات المعارضة السورية في المواجهة العسكرية المفتوحة في إدلب مع النصرة وهو خيار صعب لابد منه كي لا تجد نفسها أمام مأزق الخيار الأصعب بالنسبة لها ولحلفائها.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس