د. علي حسين باكير - مركز الجزيرة للدراسات
تتناول هذه الورقة العلاقات التركية-العراقية وتبحث في طبيعة النفوذ التركي في العراق ومراحل صعوده وهبوطه، بالإضافة إلى الإشكالية المتعلقة بدور وشرعية القوة الصلبة التركية المتزايدة في العراق، والجهود المبذولة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين وما هي احتمالات نجاحها.
تقليديًّا، شكَّل المنظور الأمني مدخلًا أساسيًّا لعلاقات تركيا مع جوارها الجنوبي لفترة طويلة من الزمن، تاركًا تأثيره كذلك على السياسة الخارجية التركية تجاه العراق لاسيما فيما يتعلق بالمثلث الأمني الأكثر أهمية لأنقرة، وهو: حزب العمال الكردستاني، والمياه، والطاقة. إبان الحرب العراقية-الإيرانية، بدأت هذه الملفات تأخذ حيزًا أكبر في علاقات البلدين، وللمفارقة فقد خلقت الحرب آنذاك مساحة للتعاون المشترك بين أنقرة وبغداد.
لكن مع قرب انتهاء الحرب، بدأت المشاكل المتعلقة بأمن الحدود وأمن المياه وأمن الطاقة تتفاقم ، وتعمقت مع غزو العراق للكويت في صيف العام 1990، وما تلاها من حوادث داخل العراق و/أو عمليات عسكرية ضده خلال التسعينات. أدت سياسة العقوبات الدولية على العراق، آنذاك، إلى تراجع التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع بغداد، حيث قدَّر البعض خسائر تركيا الاقتصادية المتعلقة بالصادرات فقط عن الفترة من العام 1988 وحتى العام 2003 بحوالي 54 مليار دولار .
علاوةً على ذلك، أصبحت أنقرة خلال تلك المرحلة أكثر حساسية إزاء الملف الكردي لاسيما بعد قرار مجلس الأمن الذي أسَّس لمنطقة الحظر الجوي شمال العراق، وسرعان ما صعدت المخاوف لديها من إمكانية انهيار العراق ونشوء دولة كردية مستقلة، فأصبح التأكيد على ضرورة "وحدة العراق وسلامة أراضيه" بالإضافة إلى تحقيق "الأمن والاستقرار" فيه ثابتًا من ثوابت السياسة الخارجية التركية تجاهه.
شكَّل احتلال العراق، عام 2003، نقطة تحول كبيرة بالنسبة إلى السياسية التركية في المنطقة، وتقاطع ذلك مع صعود حزب العدالة والتنمية في تركيا، عام 2002، والتأسيس لسياسة خارجية جديدة قوامها الانفتاح على الشرق الأوسط والانخراط الإيجابي مع الجيران. رفضت أنقرة آنذاك استخدام أراضيها منطلقًا لغزو العراق، وقد أدى هذا القرار إلى ثلاث نتائج بارزة، أولها: صعود شعبية تركيا الإقليمية مما مهَّد لاحقًا لصعود قوتها الناعمة. وثانيها: خسارة الوعود المالية الأميركية وبدء التوتر في العلاقات الأميركية-التركية، وثالثها: تحول الأمن الجيوسياسي للعراق (وحدة العراق وسيادته الإقليمية واستقراره الداخلي) إلى الهاجس الأكبر للسياسة الخارجية التركية.
صعود وهبوط النفوذ التركي في العراق
أ. مرحلة الصعود (2010-2014)
مع التحضيرات الأميركية التي جرت في العام 2009 للانسحاب من العراق، حاولت تركيا إعادة ترتيب أوراقها في بلاد الرافدين. كانت أنقرة تأمل في أن يؤدي انتخاب إياد علاوي إلى بروز عراق موحد ومستقر وغير طائفي وغير خاضع للنفوذ الإيراني، لكن صفقة إيرانية-أميركية حالت دون وصوله إلى السلطة وأدت إلى التجديد لنوري المالكي في منصب رئاسة الوزراء. على الرغم من محاولات أنقرة الانخراط الإيجابي مع المالكي، إلا أن العلاقات التركية-العراقية تدهورت بشكل سريع بسبب سياساته الطائفية والمنحازة كليًّا إلى إيران. وفي تناقض تام لكل ما تمثله السياسة التركية، قام المالكي بتهميش العرب السنَّة من العملية السياسية، ولاحق رموزهم قضائيًّا وأمنيًّا، ثم تفرغ بعد ذلك لمقارعة الأكراد في إقليم شمال العراق.
على المستوى الإقليمي، أدى اندلاع الثورات العربية إلى ولادة محاور إقليمية مؤيدة ومعارضة لهذه الثورات وإلى تسريع التنافس الجيوبوليتيكي بين تركيا وإيران. ونتيجة لذلك، بدأ مشروع "الهلال الشيعي" بالبروز بشكل واضح، فبعد أن كان المالكي يتهم الأسد بإرسال الإرهابيين والمتفجرات إلى العراق ، أصبح يدافع عنه وعن نظامه انسجامًا مع السياسة الإيرانية في وجه الموقف التركي المعارض لنظام الأسد.
دفعت سياسات المالكي كلًّا من تركيا وحكومة إقليم (كردستان العراق) إلى التقارب من بعضهما البعض بشكل غير مسبوق وذلك بموازاة صعود العلاقات التركية مع السنَّة العرب في العراق. بالنسبة إلى الإقليم، أدت ضغوط المالكي إلى ولادة سياسة أكثر استقلالية. وبسبب الحقائق الجغرافية، ولكون تركيا الشريان الحيوي للإقليم والمنفذ الوحيد له إلى العالم الخارجي، لم يكن هناك من خيار سوى الانفتاح على أنقرة وذلك لتفادي ضغوط حكومة بغداد المركزية وموازنة النفوذ الإيراني المتزايد في العراق والزاحف باتجاه الإقليم.
على الجانب التركي، كانت هذه الخطوة بمثابة فرصة لتطبيع العلاقات مع الأكراد. وللمفارقة، فإن تدهور علاقات أنقرة مع حكومة بغداد المركزية أدى إلى ازدياد نفوذ تركيا سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا في شمال العراق؛ إذ ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق من حوالي 5.2 مليارات دولار عام 2009 إلى حوالي 12 مليار دولار عام 2013، جلها مع إقليم كردستان العراق. ونتيجة لذلك، وصل عدد الشركات التركية العاملة أو المرتبطة بالسوق العراقية إلى حوالي 1500 شركة، غالبيتها شركات مرتبطة بقطاع الإنشاءات والمقاولات؛ التي قامت حتى نهاية عام 2013 بتنفيذ حوالي 824 مشروعًا في العراق بقيمة إجمالية تبلغ حوالي 19.5 مليار دولار .
الممصدر : TUIK
في نهاية عهد المالكي، صعد تنظيم الدولة بسرعة مطيحًا بسلطة الحكومة المركزية ومسيطرًا على الموصل -ثاني أكبر مدن العراق- في ساعات قليلة، ليبدأ من هناك مشوار تمدده الإقليمي. أدى هذا التطور غير المحسوب في الأحداث إلى تدهور سريع في النفوذ التركي في شمال العراق اقتصاديًّا وأمنيًّا وإلى حد ما سياسيًّا أيضًا. تضررت حركة التجارة البينية وتدفق السلع التركية مع عدم قدرة الشاحنات على الدخول إلى عمق العراق كما تراجعت حركة الاستثمار التركية في البلاد وتضرر العديد من الشركات التي كانت تعمل هناك بسبب الوضع الأمني المتدهور، وارتفعت فاتورة الطاقة التركية وأصبح يُنظر إلى العراق باعتباره مصدر تهديد أمني متزايد .
ب. مرحلة الهبوط (2014-2018)
رأت تركيا في مجيء حيدر العبادي فرصة لإعادة فتح صفحة جديدة مع الحكومة العراقية، وقد كانت أنقرة تأمل في أن تقوم هذه الحكومة بتحصين الوضع الداخلي العراقي من خلال استيعاب السنَّة في العملية السياسية، والتوصل إلى تفاهم مع حكومة إقليم شمال العراق بما يساعد على استقرار البلاد ويخفف من النفوذ الإيراني والأميركي وينعكس إيجابيًّا على تركيا في نهاية المطاف. في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2014 ، ناقش الطرفان العمل على تجاوز الخلافات الثنائية وحل القضايا العالقة بالإضافة إلى عدة مقترحات رئيسية، هي: تعزيز التعاون الأمني، وتبادل المعلومات بخصوص مكافحة الإرهاب، وإقامة تعاون عسكري، ومساعدة العراق على النهوض الاقتصادي.
أدى اعتماد الحكومة العراقية على إيران والولايات المتحدة الأميركية لمحاربة تنظيم الدولة إلى صعود نفوذ طهران وواشنطن بشكل غير مسبوق وانحسار النفوذ التركي مترافقًا مع ازدياد المخاطر الأمنية التي مصدرها العراق سواء من حزب العمال الكردستاني أو تنظيم الدولة أو حتى ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية. وكما هي العادة، انحازت الحكومة العراقية إلى إيران في الصراع الإقليمي التركي-الإيراني، فتدهورت العلاقات بين رئيس الجمهورية التركية، رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، بشكل حاد في العام 2016 ، وطفت على السطح ملفات خلافية جديدة لاسيما فيما يتعلق بوجود قوات عسكرية تركية في معسكر "بعشيقة" في شمال العراق، وعملية تحرير الموصل المرتقبة، ووضع الأكراد والسنة العرب والتركمان في مواجهة صعود ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية، وأجندة إيران الإقليمية.
المصدر : TUIK
لكن سرعان ما تحولت مطالب مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني والرئيس السابق لإقليم كردستان العراق، بإجراء استفتاء لاستقلال الإقليم عن العراق، عام 2017، إلى نقطة تحول في العلاقات بين أنقرة وحكومة بغداد المركزية . وضعت مطالب الاستفتاء تركيا في مأزق؛ إذ إن هذه الدعوة صدرت ممن يُعتبر حليفًا لها، وهي تهدد ثوابت السياسة الخارجية التركية تجاه العراق وأولويات الأمن القومي التركي. كما أظهرت هذه الدعوة عدم قدرة أنقرة على تحويل نفوذها في شمال العراق إلى ورقة ضغط سياسي؛ الأمر الذي اضطرها في نهاية المطاف إلى التقارب مع حكومة بغداد المركزية وإيران التي خشيت أيضًا أن تنتقل عدوى الانفصال الكردي إلى أراضيها.
أدى التعاون الثلاثي إلى إفشال نتائج الاستفتاء وتفريغه من مضمونه، وسرعان ما تحسنت العلاقة مع حكومة بغداد المركزية، وانفتح الطرفان مجددًا، في النصف الثاني من العام 2018، على بعضهما البعض بشكل كبير. ناقش الطرفان الملف الكردي، وملف مكافحة التنظيمات الإرهابية، وملف المياه الذي كاد أن يطلق أزمة جديدة بين البلدين إثر افتتاح وملء تركيا لسد "إليسو" الواقع على طول الحدود من محافظة ماردين وشرناق والذي أدى إلى انخفاض منسوب مياه دجلة بشكل خطير، وأخيرًا ملف التعاون الثنائي مع إيران .
تنامي دور القوة الصلبة التركية في العراق
بموازاة تراجع النفوذ التركي في العراق، لوحظ اعتماد أنقرة المتزايد على قدراتها العسكرية لتحقيق أهدافها وذلك من خلال تعزيز تواجها العسكري المباشر في إقليم شمال العراق. تعكس هذه السياسة دلالات تتعلق بطبيعة التنافس والصراع الجاري على الأرض بين مختلف اللاعبين (الدول والجماعات المسلحة غير الحكومية)، وهو صراع ليس بمقدور تركيا التأثير فيه فضلًا عن حماية مصالحها من خلال الدبلوماسية والقوة الناعمة حصرًا.
وبالرغم من أن العامل العسكري ليس طارئًا على المعادلة التركية في العراق، ويعود إلى حقبة الثمانينات من القرن الماضي، إلا أن أهميته آخذة في الازدياد مع تقدم الوقت؛ ففي العام 1983، سمح اتفاق بين أنقرة وبغداد، إبَّان الحرب الإيرانية-العراقية، للقوات التركية بالتوغل داخل الأراضي العراقية لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني . وخلال فترة التسعينات، ازداد الدور التركي من البوابة الأمنية لتقليم أظافر "حزب العمال الكردستاني" ولاحتواء موجات اللجوء والنزوح من شمال العراق، وتم شن عمليات عسكرية عبر الحدود عامي 1992 و 1995 .
لكن مع استمرار التهديدات الأمنية القادمة من شمال العراق، اضطرت أنقرة إلى نشر قوات لها داخل الأراضي العراقية عامي 1996 و1997، وهو العام الذي شنَّت فيه عمليتين عسكريتين ضد "حزب العمال الكردستاني". الوجود التركي داخل الأراضي العراقية، آنذاك، كان يتم تحت إطار عمليات حفظ الأمن والسلام. ومنذ ذلك الوقت، لا تزال القوات التركية موجودة داخل الأراضي العراقية، لكن حجم ودور هذه القوات آخذ في التغير تبعًا للظروف التي يمر بها العراق من جهة والانعكاسات التي تتركها هذه الظروف على الأمن القومي التركي من جهة أخرى.
مع التحضيرات التي سبقت انسحاب القوات الأميركية في العراق، استأنفت تركيا عملياتها العسكرية في العراق، وتوصلت أنقرة وبغداد في العام 2007 إلى اتفاق يتضمن السماح للجيش التركي بملاحقة عناصر "حزب العمال الكردستاني" في شمال العراق بإذن من الحكومة العراقية. تضمن الاتفاق أيضًا فتح مكتبي ارتباط لتبادل المعلومات الاستخباراتية والأمنية بين البلدين، لكن مع خروج القوات الأميركية ووقوع العراق تحت سيطرة النفوذ الإيراني، أصبح الخلاف حول وجود القوات التركية كبيرًا في عهدي المالكي وحيدر العبادي.
في عهد العبادي تحديدًا، شاركت أنقرة في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة ، وأُوكِل إلى القوات التركية مهمة تدريب قوات البشمركة وتدريب قوات "الحشد الوطني" التي يشرف عليها محافظ الموصل السابق، أثيل النجيفي . ومع تقدم الميليشيات الشيعية المحسوبة على إيران باتجاه الشمال، باتت أنقرة تخشى أن يؤدي ذلك إلى تغييرات ديمغرافية في الموصل وإلى ازدياد التهديدات الأمنية وتشديد الخناق الإيراني على حدودها.
آنذاك، تحول الوجود العسكري التركي إلى نقطة خلاف رئيسية مع إيران التي باتت ترى في هذا الوجود عائقًا يحول دون استكمال بسط سيطرتها من خلال مد نفوذها بشكل كامل على شمال العراق. ومن وجهة نظر تركيا، فقد وقفت طهران وراء تحريض حكومة بغداد المركزية على تصعيد الصدام مع أنقرة في هذا الملف (لاسيما فيما يتعلق بمعسكر بعشيقة)، لدرجة أن رئيس الوزراء، حيدر العبادي، كان قد وجَّه شكوى لمجلس الأمن بهذا الخصوص، كما هددت المجموعات الشيعية المحسوبة على إيران باستهداف القوات التركية بشكل مباشر إذا رفضت الانسحاب .
وفقًا لتصريحات المسؤولين الأتراك، وآخرها في يونيو/حزيران من العام 2018، تمتلك تركيا 11 قاعدة عسكرية إقليمية في شمال العراق؛ حيث كانت أنقرة قد عزَّزت وجودها العسكري هناك من خلال مضاعفة قواتها وذلك بهدف "القضاء على خطر الإرهاب قبل وصوله إلى الحدود التركية") . لكن تقارير أخرى تشير إلى أن في العراق حاليًّا حوالي 19 قاعدة تركية، 15 منها قواعد عسكرية، والأربع الأخرى قواعد استخباراتية، تضم جميعها حوالي 3 آلاف جندي تركي .
لا يشكِّل الوجود العسكري التركي اليوم في العراق رأس حربة متقدمة لصد التهديدات العسكرية والأمنية القادمة من هناك فحسب، بل يلعب دورًا في تحقيق التوازن الجيو-أمني والجيو-سياسي داخل العراق وخارجه، كما أنه يضمن حماية المصالح الاقتصادية التي تسعى أنقرة إلى إعادة تفعيلها ليس على مستوى إقليم شمال العراق فحسب بل على مستوى العراق. حتى الآن، نجحت أنقرة في إبقاء قواتها هناك، لكن في ظل غياب ضمانة سياسية، تسعى تركيا إلى تقنين وجودها العسكري من خلال اتفاقيات مع الحكومة العراقية، وهذا ما تحاول فعله الآن.
إعادة تنظيم العلاقات
شكَّلت بداية العام 2019، مناسبة جيدة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين لاسيما بعد انتخاب برهم صالح رئيسًا للبلاد وتكليف عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة، نهاية عام 2018. وتشير الزيارات الدبلوماسية إلى وجود زخم سياسي لدى الطرفين؛ إذ قام الرئيس العراقي الجديد، برهم صالح، بزيارة تركيا مرتين خلال خمسة أشهر (يناير/كانون الثاني ومايو/أيار)، وزار وزير خارجية تركيا، مولود تشاووش أوغلو، العراق في أبريل/نيسان الماضي (2019) قاصدًا بغداد والبصرة وأربيل، كما زار رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي أنقرة في مايو/أيار(21) ، ومن المتوقع أن يزور الرئيس التركي بغداد نهاية عام 2019 لإعادة تفعيل المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين البلدين .
المصدر: الباحث
** من المفترض أن يكون الاجتماع سنويًّا، لكن الجدول دليل على عدم استقرار العلاقات بين البلدين.
خلال هذه الزيارات، عادت الملفات التقليدية إلى الواجهة مجددًا إلى جانب بعض الملفات الجديدة التي ناقشها الطرفان، ومن أهمها:
الملف الأمني: ويتضمن مكافحة التنظيمات الإرهابية؛ حيث يشدِّد الطرفان على ضرورة تطبيق الاتفاقات السارية بفعالية مع الاعتراف بوجوب التوصل إلى اتفاقات جديدة في مجال التعاون العسكري، والأمني، والصناعات الدفاعية...إلخ.
أمن الطاقة: ويتضمن تفعيل خط النفط الأساسي كركوك-جيهان بعد أن توقف بشكل كلي مع صعود تنظيم دولة في العام 2014.
أمن المياه: وقد قام الجانب التركي بتعيين "فيسل أرأوغلو" كمبعوث رئاسي خاص في مسألة كتعبير جاد عن رغبته في حل مشكلة المياه العالقة منذ زمن، كما عرض على الجانب العراقي الخبرات اللازمة في إدارة المياه.
التجارة والاستثمار: وتتضمن السعي إلى مضاعفة حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى 20 مليار دولار، ويأمل الجانب التركي في أن يتم افتتاح معبر آخر مع العراق إلى جانب المعبر القائم عبر إقليم كردستان العراق.
الإنشاءات وإعادة الإعمار: وتتضمن التعهدات التركية المتعلقة بتخصيص تسهيلات وقروض بقيمة 5 مليارات دولار للمساهمة في إعادة إعمار العراق، بالإضافة إلى توسيع مجال عمل شركات الإنشاء التركية وإمكانية إنشاء خط سكة حديد بين تركيا والعراق.
وتقوم مقاربة تركيا الجديدة إزاء العلاقة مع العراق على الموازنة بين ثنائيات مختلفة بدلًا من الاعتماد الأحادي الذي كان سائدًا من قبل على الفاعلين السياسيين أو على المناطق أو على المكونات العراقية أو على الملفات الثنائية. إذ وبينما تسعى أنقرة إلى توطيد علاقاتها مع حكومة بغداد، تقوم بموازاة ذلك بتطبيع علاقاتها أيضًا مع حكومة أربيل بعد تجاوز مسألة الاستفتاء. وفي الوقت الذي لا تزال تحتفظ فيه بعلاقات جيدة جدًّا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، فإنها تقوم كذلك بمد جسور جديدة مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المنافس والمحسوب تقليديًّا على إيران. تقليديًّا، يتركز جل النفوذ الاقتصادي لأنقرة في شمال العراق في أربيل، لكنها تسعى الآن إلى زيادة تأثيرها في السليمانية أيضًا ومحاولة زيادة نفوذها لكي يتجاوز شمال العراق إلى بغداد ومنها إلى جنوب العراق، أي البصرة تحديدًا. وبينما تبقى الأولوية دومًا للعامل الأمني، إلا أن هناك جهودًا مؤخرًا لتحقيق توازن بين الأمني والاقتصادي والسياسي.
لكن كما كان التفاؤل موجودًا في كل محاولة لفتح صفحة جديدة مع العراق، لا شيء يضمن أن تسير العلاقات التركية-العراقية في المسار الذي يتمناه الجانب التركي؛ ذلك لأن المؤثرات الخارجية لا تقل أهمية عن المؤثرات الداخلية في هذه العلاقة لاسيما فيما يتعلق بتأثير ونفوذ كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية.
• على الصعيد الاقتصادي والتجاري:
تبدو الفرصة متاحة لتركيا والعراق لتحقيق تقدم سريع في هذا المجال، فالعقوبات الأميركية على إيران تخلق فرصة للطرفين لزيادة اعتمادهما على بعضهما البعض. ومع التزام أنقرة بالعقوبات المتعلقة بالنفط، فإن العراق قد يشكِّل بوابة رئيسية لتعويض النقص الحاصل في استيراد النفط الإيراني. علاوةً على ذلك، فإنَّ نأي العراق بنفسه عن الصراع الإيراني-الأميركي من شأنه أن يعزز من استقراره وسيكون ذلك بمثابة عامل جذب للاستثمارات التركية ولشركات الإنشاءات والمقاولات التي تحتل المرتبة الثانية عالميًّا.
وفي الوقت الذي تُبدي فيه كل من الحكومة التركية والعراقية حماسًا فيما يتعلق بخطط فتح معبر آخر بين البلدين، لا يشاطر إقليم شمال العراق الطرفين نفس الحماس على اعتبار أن المعبر الجديد الذي من المفترض أن يمر في أراض خارج سيطرة الإقليم قد يؤثر سلبًا عليه.
• على الصعيد السياسي:
أدت هزيمة تنظيم الدولة وفشل الجهود الرامية إلى فصل شمال العراق بالإضافة إلى التغييرات السياسية الداخلية في بغداد إلى توفير الأجواء اللازمة لانخراط سريع وجاد مع تركيا لفتح صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين. وتعد الزيارات الدبلوماسية إلى جانب تعيين مبعوث خاص لمسألة المياه وإعادة تفعيل المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بمنزلة مؤشر قوي على هذا الاتجاه.
وتعكس التحركات الدبلوماسية التركية جهودًا لإعادة وصل ما انقطع مع جميع المكونات العراقية؛ حيث تسعى أنقرة إلى إعادة فتح قنصلياتها في الموصل (أُغلقت سابقًا بسبب تنظيم الدولة) والبصرة (أغلقت سابقًا بسبب مخاطر أمنية)، علاوة على طلب فتح قنصليات عامة جديدة في كل من النجف وكركوك. وبالرغم من أن هناك ضوءًا أخضر لفتح قنصلية في النجف، إلا أن الأمور ليست محسومة بعد بالنسبة إلى كركوك نظرًا لحساسياتها.
وفي الوقت الذي تظهر فيه تركيا أكثر حرصًا على ضرورة المشاركة الفعالة للعرب السنَّة والتركمان في العملية السياسية، فإن الانقسام الشديد داخل هذه المكونات بالإضافة إلى احتواء إيران لبعض رموزها يحول دون استفادتها بشكل صحيح من أي دعم سياسي تركي مرتقب. علاوةً على ذلك، ثمة تساؤلات دائمة بشأن الموقف الإيراني من التمدد التركي السياسي والاقتصادي باتجاه جنوب العراق على اعتبار أن طهران، صاحبة النفوذ الأكبر هناك، كانت قد عطَّلت مرارًا وتكرارًا جهد أنقرة في هذا الصدد.
• على الصعيد الأمني:
يشدِّد الجانب العراقي الآن على أنه لن يقبل أن تكون أراضيه منطلقًا لهجمات تهدد أمن تركيا مجددًا، لكن هناك من يشكِّك في قدرة حكومة بغداد من الناحية العملية على فعل شيء فيما يتعلق بالمناطق الشمالية. لا شك أن التوصل لاتفاقات أمنية وعسكرية جديدة مع تركيا سيشكِّل خطوة إيجابية للطرفين ويضمن بقاء القوة الصلبة التركية كعامل توازن جيو-أمني وجيو-سياسي داخلي وإقليمي، لكن ذلك سيعتمد أيضًا على عدم وجود فيتو على الأرجح من أطراف خارجية ومن إيران تحديدًا لاسيما إذا بقي نفوذها على حاله في العراق. وبهذا المعنى، فإن هذا الملف سيختبر مدى استقلالية الحكومة العراقية و/أو مدى خضوعها للضغوط الخارجية من جهة، بالإضافة إلى مدى استعداد أنقرة للدفاع عن وجودها في العراق في ظل المعطيات السائدة حاليًّا داخل العراق وفي الإقليم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس