سعيد الحاج - عربي 21
قبل أيام، أعلن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي براءة جونكر عن إقرار اللجنة لمسودة قرار لاتفاقية تعاون بين تركيا وقطر تشمل التدريب العسكري، والصناعات الدفاعية، والمناورات المشتركة، ونشر القوات العسكرية بين البلدين حين تدعو الضرورة.
ولئن كان من المبالغة اعتبار علاقة البلدين حلفاً أو تحالفاً -إذ للمصطلحين السابقين محددات ومعايير ما زالت غير موجودة- إلا أننا أمام مرحلة جديدة ومتقدمة بينهما، على طريق التعاون الاستراتيجي الوثيق الذي لم يكن بالتأكيد وليد اليوم.
لقد بدأت العلاقة قديماً بين البلدين في عهد الأمير الأب حين لفت أنظارَ المراقبين التقارب الشديد في السياسات الخارجية، سيما فيما خص قضايا المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية رغم أنها تتمايز عن مواقف حليفهما الرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي دعا بعض الدوائر إلى تصنيفهما ضمن "حلف الممانعة" في ذلك الوقت، تحديداً لمخالفتهما سياسات "محور الاعتدال" العربي ودعمهما المعلن لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
لاحقاً، شكلت الموجة الأولى من ثورات ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي فرصة جديدة لتعميق العلاقة بين أنقرة والدوحة، إذ وقفت كلاهما إلى جانب الشعوب في وجه الأنظمة منذ بدايات الحراك الشعبي.
وإذا ما أطلقت الثورة المصرية رصاصة الرحمة على محور الاعتدال، فقد هدمت الثورة السورية كذلك أسس محور الممانعة بصيغته السابقة، بابتعاد أو إبعاد كل من تركيا وقطر وحركة حماس.
واليوم، وبعد تراجع قوى الثورة أمام ضربات الثورة المضادة في أكثر من بلد، يحتفظ البلدان بمستوى رفيع من التنسيق والتعاون.
واستمرت العلاقات بتطورها المضطر بعد تولي الأمير الابن مقاليد الحكم في الدوحة، وانتقال أردوغان من رئاسة الوزراء إلى رئاسة الجمهورية. وفي أول زيارة للأخير بعد توليه الرئاسة لقطر، تم الإعلان في أيلول 2014 عن الاتفاق على تشكيل مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي بين البلدين، لبحث سبل التعاون في الملفات المشتركة بينهما.
فما الذي يدفع البلدين لهذا التعاون على طريق التحالف؟
يجمع بين الطرفين عناصر مشتركة كثيرة، على رأسها حلم النهضة والتنمية والريادة الإقليمية منذ سنوات طويلة، سيما في المجالات الاقتصادية، لكنهما تمثلان أيضاً لبعضهما البعض أهمية استراتيجية. فكلا العاصمتين تعانيان من محيط ملتهب أو مخالف لتوجهاتهما، وهو ما يحد من إمكانات انطلاقهما في مجال السياسة الخارجية تحديداً.
لقد ورث العدالة والتنمية بلداً ضعيفاً تابعاً منكفئاً على نفسه، وسعى خلال 13 عاماً على زيادة عوامل قوته وانفتاحه وتأثيره في المنطقة، لكن الطريق ما زال طويلاً أمامه، في مشهد شبهه السفير التركي في اليمن بزارع الزيتون الذي سيحتاج ربما لعشرات السنوات حتى يحصد نتاج ما زرع.
لقد تعرضت تركيا لعدة ضربات مؤخراً، حين وضعت قوتها الناعمة التي ما زالت تحبو أمام القوة الإيرانية الخشنة ذات الأنياب والأظفار، فتراجعت في سوريا والعراق واليمن رغم احتفاظها بكثير من عناصر القوة والمناورة.
إن تحول المنطقة من مرحلة "صفر مشاكل" إلى حافة "صفر هدوء" دعا أنقرة إلى مراجعات عميقة في سياساتها الخارجية والنظريات التي تقوم عليها، كما دفعتها العلاقات المتدهورة مع واشنطن إلى البحث عن سبل تدعيم سياستها الخارجية الهادفة لاستقلالية ولو جزئية عن الأخيرة.
تبحث تركيا - وفق هذه الرؤية - عن شريك إقليمي يساهم في عملية التوازن، ويعضد المواقف التركية المختلفة، وهو توجه تركي غير جديد بكل الأحوال، حيث كان المسؤولون الأتراك أول من زار القاهرة بعد الثورة وعرض عليها الدعم والتعاون، أملاً في أن تكون هي أول الشركاء في الإقليم.
ويبدو أن ملف الطاقة عنصر مهم جداً وحساس في التعاون بين البلدين وفي خططهما المستقبلية، حيث تمثل قطر فرصة أو بديلاً مستقبلياً عن الغاز الطبيعي الروسي والإيراني، بما يريح السياسة الخارجية التركية من هذه الضغوط، التي ساهمت - ضمن عوامل أخرى كثيرة - إلى ضعف فعالية تركيا في الملف السوري وعجزها عن فرض أو تسويق رؤيتها للحل.
كما ستكون كل من الدولتين بمثابة متكأ للأخرى في عدة ملفات - اقتصادية وتنموية بالأساس - في مناطق مختلفة، مثل العالم العربي والبلقان والقوقاز، بينما تمثل إفريقيا تحديداً ساحة غضة وواعدة ومرحبة بالمشاريع التركية والقطرية.
أخيراً، يبدو أن تركيا ترى في الدوحة باباً نحو دول الخليج الأخرى سيما السعودية، وهو ما أشار له النائب التركي قائلاً إنه ربما تتبع الاتفاقية مع قطر اتفاقات مماثلة مستقبلاً مع دول الخليج الأخرى.
تدرك أنقرة بالتأكيد أهمية الدور السعودي وتأثيره في مختلف قضايا الإقليم، وترنو إلى تعاون استراتيجي معها أيضاً لمواجهة الأخطار الماثلة، سيما التمدد الإيراني في عواصم المنطقة واحتمالات الاتفاق الإيراني الغربي حول الملف النووي وانعكاساته التي ستؤثر على الجميع.
وهو ما يفسر حرص الأتراك على علاقات الحد الأدنى مع الرياض وعدم الانجرار للاحتكاك معها سابقاً، كما يوضح أيضاً مسوغات المبادرات التركية الواضحة نحو العهد الجديد في السعودية.
إذاً، بخلاف الاتفاقات السابقة التي غلب عليها الشق الاقتصادي، تبدو الاتفاقية الأخيرة -حال إبرامها- خطوة مختلفة ومتقدمة في ملف التعاون بين البلدين، إذ قد تحمل معنى "الاتفاق المحيطي" للالتفاف على بعض دول المنطقة، كما قد يعني نظرية تركية جديدة في الانخراط في قضايا المنطقة وتخليها عن القوة الناعمة أداة وحيدة للتعامل مع مختلف الملفات الشائكة، وهو توجه -إن حصل- سيكون له ما بعده في المستقبل القريب، وستكون أولى خطواته تحول التعاون مع الدوحة إلى تحالف استراتيجي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس