د. علي الصلابي - خاص ترك برس
تمهيد:
ولد الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمَّد بن أحمد بن راشد التَّميمي سنة 1115هـ/1703م في بلدة العيينة الواقعة شمال الرِّياض، بينها وبين الرِّياض مسيرة سبعين كيلو متراً، أو ما يقارب ذلك من جهة الغرب.
ونشأ على حبِّ العلم، فطلبه منذ صغره، وظهر منه نبوغٌ، وتميُّز، فحفظ القرآن الكريم، ودرس الفقه الحنبليَّ، والتَّفسير، والحديث، وتتلمذ على كتب ابن تيميَّة في الفقه، والعقائد، والرأي، وأُعجب بها أيَّما إعجابٍ، وتأثَّر بكتب ابن القيِّم، وابن عروة الحنبلي، وغيرهم من فحول هذا المنهل السَّلفي.
ورحل في طلب العلم إِلى مكَّة، والمدينة، والبصرة، والأحساء. وتعرَّض لفتنٍ عديدةٍ عندما جاهر بآرائه في العراق، ثمَّ رجع بعد ذلك إِلى نجد.
وعندما رجع إِلى حريملاء ببلاد نجد بدأ دعوته بالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، والاشتغال بالعلم، والتَّعليم، والدَّعوة إِلى عقيدة التَّوحيد الصَّافية، وحذَّر من الشِّرك، ومخاطره، وأنواعه، وأشكاله، وتعرَّض لمحاولة اغتيال من بعض السُّفهاء في حريملاء، وانتقل بعد ذلك إِلى بلدته العيينة، وتلقَّاه أميرها بالتَّرحيب، وشجَّعه على أمر الدَّعوة، فأقام الشَّرع، ونفَّذ الحدود، وهدم القباب، ولم يستمرَّ في حريملاء طويلاً بسبب ضغط أمير الأحساء على أمير حريملاء لقتل الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب، فخرج ماشياً على الأقدام إِلى الدِّرعيَّة.
أولا: تحالفه مع محمَّد بن سعود:
استطاع محمَّد بن عبد الوهاب أن يتحالف مع الأمير محمَّد بن سعود الَّذي قام بماله، ورجاله من أجل دعوة التَّوحيد، وكان هذا التَّحالف على أسسٍ متينةٍ، واستطاع الشَّيخ أن يواصل دعوته للنَّاس بالتَّعليم، والرَّسائل، والوعظ، واستمرَّ على هذا الحال يعلِّم، ويكتب الرَّسائل، ويدبِّجها بالحجج، والبراهين، والأدلَّة على صحَّة دعواه، يدعو إِلى إِزالة المنكر، وهدم قباب القبور، وسدِّ ذرائع الشِّرك، وتحقيق العبودية لله وحده. وظلَّت الدَّعوة مسالمةً متأنيَّةً، تطرق القلوب برفقٍ، وأناةٍ، وتدعو إِلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، واستمرَّ يعلِّم من يحضر دروسه، ويوضح عقيدته، ويشرح مبادئ دعوته للقاصي والدَّاني، ولكنَّه رأى: أنَّ اللِّين يقابل بالشِّدَّة، وأنَّ الصِّدق يقابل بالكذب، والموعظة الحسنة يردُّ عليها بالمؤامرات، فلم يكن بدٌّ من دخول مرحلة الجهاد، وتغيير المنكر بالقوَّة.
إِذَا لَمْ يَكُنْ إِلا الأسِنَّةُ مَرْكَبَاً
فَمَا حِيْلَةُ المُضْطَرِّ إِلا رُكُوْبُهَا
وبدأ الشَّيخ يعاونه الأمير محمد بن سعود بإِعداد العدَّة من الرِّجال، والسِّلاح للخروج بجمع المجاهدين من الدِّرعيَّة إِلى خارج حدودها؛ لنشر الدَّعوة، وتثبيت أركانها في الجزيرة، وخارجها، وكان الشَّيخ يشرف بنفسه على إِعداد الرِّجال، وتجهيز الجيوش، وبعث السَّرايا، ويستمرُّ مع ذلك على الدَّرس، والتَّدريس، ومكاتبة النَّاس، واستقبال الضُّيوف، وتوديع الوفود، فقد جمع الله له العلم، والجاه، والعزَّة، والتَّمكين بعد جهادٍ طويل، وقد كان له نظرٌ سياسيٌّ ثاقب، وخبرةٌ واسعةٌ في أمر الحرب، والسِّياسة.
واستمرَّت الحروب بين أنصار الدَّعوة وأعدائها سنين عديدةً، وكان النَّصر حليف أصحاب الدَّعوة في أغلب المواقف، وكانت القرى تسقط واحدةً تلو الأخرى، وفي عام 1178هـ/1773م فُتحت الرِّياض بقيادة الأمير عبد العزيز بن محمَّد بن سعود، وفرَّ منها حاكمها السَّابق دهام بن دوَّاس، وكان حاكما ظالماً غشوماً، اعتدى على الدُّعاة مراراً، ونقض العهود الَّتي أبرمها مع القائمين على الدَّعوة. وبعد فتح الرِّياض اتَّسعت رقعة الأرض الَّتي تخضع للدَّعوة، ودخل كثيرٌ من النَّاس في الدَّعوة مختارين، فقد أزيلت العوائق الَّتي كانت تصدُّهم عنها، وانفرجت الأمور بعد ضيقٍ، وجاء اليُسر بعد العُسر، وكثرت الأموال، وهدأت الأحوال، وأمن النَّاس في ظلِّ الدَّولة الإِسلاميَّة الفتيَّة، الَّتي حرم النَّاس من نعمة الأمن مدَّة غيابها.
وبعد وفاة الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهاب واصلت الدَّعوة مسيرها، وساندها ال سعود بقوَّة السُّلطان، وتحوَّلوا إِلى الحجاز، الَّتي كان يسيطر عليها الشَّريف غالب بن مساعد، والَّذي شرع في شنِّ هجماتٍ على السُّعوديِّين، دينيَّاً وعسكريَّاً. ودام الصِّراع بينهما حتى عام 1803م حين دخل السُّعوديُّون مكَّة من غير أن يتعرَّضوا لأيَّة مقاومةٍ من جانب الشَّريف غالب، الَّذي آثر الهروب إِلى جدَّة، وبعد عامين ضمَّ السُّعوديون المدينة المنوَّرة.
وامتدَّ نفوذ الحركة السَّلفيَّة على معظم الجزيرة العربيَّة، وشعرت بريطانيا بخطورة هذا النُّفوذ على مصالحها. لقد أصبحت الدَّولة السُّعوديَّة الأولى يمتدُّ نفوذها على الخليج العربيِّ، والبحر الأحمر، ودخل القواسم في الخليج العربيِّ تحت نفوذها، ووصل نفوذها إِلى جنوب العراق، وأصبحت تؤثِّر على الطَّريق البرِّيِّ بين أوربة والشَّرق، وفوق هذا وذاك فإِنَّ الأسس الدِّينيَّة الَّتي ترتكز عليها هذه الدَّولة قد قطع على بريطانيا إِمكانيَّة تطويعها، أو عقد الاتفاقيَّات معها، حيث كان العداء للنُّفوذ الأجنبيِّ في المنطقة من أهم أهداف هذه الدَّولة.
لقد استطاع القواسم، ومِنْ خلفهم القوَّة السُّعوديَّة مِنْ توجيه ضرباتٍ موجعةٍ لأسطول الإِنجليز في عام 1806م، وأصبحت مياه الخليج تحت سيطرتهم.
لقد بلغت الدَّولة في زمن سعود بن عبد العزيز الأوج من النَّاحية السِّياسيَّة، إِذ وصلت كربلاء في العراق، وإِلى حوران في بلاد الشَّام، وخضعت لها الجزيرة كاملةً باستثناء اليمن.
ثانيا: المؤامرة ضدَّ حركة الشَّيخ محمد بن عبد الوهاب:
فكَّر شياطين الإِنس من أبناء أوربة في النَّتائج الَّتي يصلون إِليها لو استمرَّت الدَّولة السُّعوديَّة الأولى، ورأوا: أنَّ ذلك يقضي على مصالحهم في الشَّرق عموماً، ولذلك لا بدَّ من تدمير هذه الدَّولة، فسلكوا مسالك شتَّى للقضاء على نفوذ الدعوة السَّلفيَّة، منها:
1: تأليب الرَّأي العام داخل ديار الإِسلام ضدَّ دعوة الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب، فقام الَّذين اعتقدوا بالبدع، والخرافات على أنَّها من دين الإِسلام بالتَّصدِّي لدعوة الشَّيخ، ومقاومتها، وليست هذه المقاومة من جهةٍ واحدةٍ، أو من طرفٍ معيَّنٍ بل من كلِّ الجهات، ومن كلِّ الأطراف، أتت من قبل المشايخ الَّذين يتمسَّكون بالنُّفوذ الَّذي يعطيهم إِيَّاه العامَّة، وأهل الجهالة، يبغون المحافظة على ما هم عليه من البدع، والخرافات ظانِّين: أنَّها من الدِّين، أتت من سدنة القبور، أتت من المستفيدين من صناديق النُّذور، أتت من الَّذين يعيشون على الأطعمة، والأموال الَّتي تقدَّم لهم في موالد الأموات، والزِّيارات، أتت أيضاً من الَّذين يعتقدون: أنَّ الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب قد أتى بدينٍ جديدٍ يخالف ما اعتادوا عليه، وأولئك كانوا منتشرين بأنحاء الدَّولة العثمانيَّة كلِّها، بل وفي العالم الإِسلامي أجمع، حدث كلُّ ذلك بعد أن أشاع الإِنجليز، والفرنسيُّون أعداء الإِسلام الفتاوى الَّتي استصدروها من علماء السُّوء بفساد ما يدعو إِليه أتباع محمَّد بن عبد الوهَّاب.
2: الدَّسُّ والوقيعة بين حركة الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب، وقيادة الدَّولة العثمانيَّة، لقد ألقى الإِنجليز، والفرنسيُّون، وغيرهم في روع السُّلطان محمود الثَّاني: أنَّ حركة الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب تهدف إِلى الاستقلال بجزيرة العرب، والانفصال عن الخلافة العثمانيَّة، ثمَّ توحيد العالم العربي، وانتزاع لواء الخلافة، والقيادة من الدَّولة العثمانيَّة، وإِقامة خلافةٍ عربيَّةٍ، واستجاب السُّلطان محمود الثَّاني لوشايات الأعداء، وما كان له أن يفعل ذلك، وكان الَّلائق به أن يشكَّ في هذا النُّصح الكاذب، ويرسل من أمناء الدَّولة من يتحقَّق في الأمر، ولم ينتبه سلطان المسلمين إِلى خطورة تصديق هذا الخبر المدسوس على حركةٍ إِسلاميَّةٍ صادقةٍ، وتجاوب مع اقتراحات الأعداء بوجوب القضاء عليها قبل أن يستفحل أمرها، وتُكلِّفُ الدَّولة الكثير من الأموال والرِّجال للقضاء عليها.
وضعت الدَّولة العثمانيَّة خطَّتها لمحاربة الدَّولة السُّعوديَّة الأولى، ورأت أن تلقي عبء هذه المهمَّة على كاهل الولاة في الأقطار المجاورة، هادفةً بذلك إِلى غرضين: الأوَّل للقضاء على التَّوسُّع السُّعودي في المشرق العربيِّ، والآخر: إِضعاف هؤلاء الولاة، واستنزاف مواردهم حتَّى يظلُّوا ضعافاً خاضعين للدَّولة خضوعاً تامَّاً، فاتَّجهت أوَّل الأمر إِلى والي بغداد؛ إِذ كان أقرب الولاة إِلى نجد، إِلا أنَّ ذلك الوالي كان مشغولاً بالارتباكات المحلِّيَّة في ولايته، وكان جيشه من الضَّعف بحيث لا يقوى على مجابهة السُّعوديِّين، وفشل عدَّة مرَّات في صدِّ هجماتهم على حدود العراق، فاتَّجهت الدَّولة إِلى والي الشَّام لعلَّه ينجح فيما فشل فيه والي العراق، فكان نصيبه من الفشل أفدح من زميله، ولمَّا يئست الدَّولة من قدرة ولاتها في بغداد، والشَّام ولَّت وجهها شطر مصر، فطلبت من واليها محمَّد علي عام 1807 م أن يقوم بحملةٍ على بلاد العرب «لتصفية الحرمين الشَّريفين، واستخلاصهما» من أيدي السُّعوديِّين، واسترداد سلطة الدَّولة المشرفة على الزَّوال في جزيرة العرب. ولكنَّ محمَّد علي لم يلبِّ طلب الدَّولة إِلا في عام 1811 م بعد تخلُّصه من بكوات المماليك في مذبحة القلعة.
إِنَّ أتباع الدَّعوة السَّلفيَّة لم يطلبوا الخلافة، ولم يبدوا اعتراضهم على التَّبعيَّة لها، ولكنَّ الخلاف قد انحصر في أمرين أساسيَّين، الأول: هو مطالبة السَّلفيِّين بضرورة التزام وفود الحجيج بمنهج الإِسلام، والإِقلاع عن كلِّ ما فيه خروجٌ عليه، والأمر الثَّاني: هو شعور الدَّولة العثمانيَّة بالحرج والضَّعف أمام سيطرة الوهَّابيِّين على المدن المقدَّسة في الحجاز، حيث أدركوا أنَّ في ذلك إِسقاطاً لهيبتهم، ومكانتهم السِّياسيَّة.
وقد بيَّن الجبرتي: أنَّ موقف الوهَّابيِّين من وفود حجيج الشَّام «بألا يأتوا إِلا على الشَّرط الَّذي اشترطوه عليهم، وهو»: أن يأتوا بدون المحمل، وما يصحبهم من الطَّبل، والزَّمر، والأسلحة، وكلِّ ما كان مخالفاً للشَّرع. فلمَّا سمعوا ذلك رجعوا من غير حجٍّ، ولم يتركوا مناكيرهم»، كما ذكر موقفاً مماثلاً من موكب الحجِّ المصري.
واقتصر مرسوم السُّلطان العثمانيِّ القاضي بطلب الحرب مع السُّعوديِّين من محمَّد علي، وبدافعٍ من رسائل شريف جدَّة، وكذلك بوحيٍ وتشجيعٍ من الإِنجليز، على «استخلاص الحرمين، والوصيَّة بالرَّعيَّة والتُّجَّار»، وتكرَّر نفس الطَّلب بعد ذلك مجدِّداً الاقتصار على تخليص الحرمين الشَّريفين. وفي أعقاب نجاح القوَّات العسكريَّة في الاستيلاء على بلاد الحجاز، بعد أن هزمت وأخفقت عدَّة مرَّات أمام أتباع الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب أرسل السُّلطان محمود الثَّاني مرسوماً إِلى مصر يُقرأ في المساجد باستعادته للحرمين الشَّريفين، وهو أمر يوحي بأنَّ السُّلطان العثمانيَّ ليس له هدفٌ آخر سوى عودة الحجاز للسِّيادة العثمانيَّة.
كان من الممكن أن تنتهي هذه الحرب إِلى هذا الحدِّ، فقد سيطرت قوَّات محمَّد علي على مدن الحجاز، وعيَّن محمَّد علي شريفاً جديداً على منطقة الحجاز الَّذي اضطرَّ للسَّفر إِليها، وقام بطرد الشَّريف غالب الَّذي ساند قوَّاته، وساعدها على دخول الحجاز، كما أنَّ قادة الدَّعوة السَّلفيَّة السُّعوديِّين قد عرضوا عليه الصُّلح، ولكن محمد علي وضع شروطاً صعبة التحقيق لقبول الصُّلح، وكذلك ضمَّن ردَّه على طلب الصُّلح تهديداً يرويه الجبرتي، فيقول: (وأمَّا الصُّلح فلا نأباه بشروطٍ وهو أن يُدفع لنا كلُّ ما صرفناه على العساكر من أوَّل ابتداء الحرب إِلى وقت تاريخه، وأن يأتيَ بكلِّ ما أخذه، واستلمه من الجواهر، والذَّخائر الَّتي كانت بالحجرة الشَّريفة، وكذلك ثمن ما استهلك منها، وأن يأتي بعد ذلك، ويتلاقى معي وأتعاهد معه، ويتم صلحنا بعد ذلك، وإِن أبى ذلك، ولم يأتِ؛ فنحن ذاهبون إِليه).
مراجع البحث:
- علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، ص. ص (285-289).
- أحمد القطان، إِمام التَّوحيد محمَّد بن عبد الوهاب، ، مكتبة السُّندس، الكويت، الطَّبعة الثانية 1409هـ/1988م ص 34.
- زكريا سليمان بيومي،قراءة جديدة في تاريخ العثمانيِّين ،عالم المعرفة، الطَّبعة الأولى 1411هـ/1991م، ص 184.
- حمد السيد الوكيل، استمرارية الدَّعوة، دار المجتمع، المدينة، السُّعودية، الطَّبعة الأولى 1414هـ/1994م. (3/294)
- اسماعيل أحمد ياغي،العالم العربي في التَّاريخ الحديث، مكتبة العبيكان، السعودية/ 1418هـ/1997م،ص 17.
- جمال عبد الهادي، وفاء محمد رفعت جمعة، علي أحمد لبن، الدَّولة العثمانيَّة، أخطاء يجب أن تصحَّح في التاريخ، دار الوفاء، مصر. الطَّبعة الأولى، 1414هـ/1994م.ص94.
- محمَّد أديب غالي ،من أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي، ، دار اليمامة السُّعودية، ط1 سنة 1975م، ص 111.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس