ترك برس
تناول تقرير في صحيفة العربي الجديد الأنباء التي انتشرت مؤخرًا فيما يتعلق بتفعيل اعتماد الليرة التركية كبديل عن الليرة السورية في مناطق المعارضة شمالي سوريا.
ويرى كاتب التقرير مناف قومان أن هذه الفكرة قديمة وجاءت مع تحرير مناطق في ريف حلب الشمالي في معركة "درع الفرات" وعفرين.
وتلك المنطقة، وإن كانت الحكومة المؤقتة تسيطر عليها نظرياً، فالمجالس المحلية تقر وترسم المشاريع والقرارات بدون العودة إلى الحكومة المؤقتة. يقول التقرير.
السؤال: هل نستبدل الليرة السورية، التي تتبع لحكومة الأسد، بالليرة التركية أو بأي عملة أخرى؟ علماً أن هذا السؤال قفز في كافة مناطق سورية، بعد هبوط قيمة الليرة وفشل حكومة الأسد في الحفاظ على سعر صرف مستقر، بعدما شارفت على عتبة ألف ليرة أمام الدولار، وبالتالي تبخر مدخرات المواطنين واستلاب عرق جبينهم بعملة غير مستقرة لم تعد قادرة على الإتيان بأهم وظيفة لها كمستودع للقيمة.
وتابع الكاتب: الثابت أن الثقة التي يمنحها الناس لعملة ما هي العامل الرئيسي في إضفاء قيمة وشرعية للعملة، مُنحت على أسس، كاستقرار العملة وقوتها واستقرار النظام السياسي والحالة الأمنية في البلد المصدر للعملة. ومتى اهتزت هذه الثقة سيتجه الناس للبحث عن عملة أخرى.
وتُعد قوى العرض والطلب في السوق في البلدان التي تعيش في أحضان السوق الحرة؛ المحدد الرئيسي لحركة الأسعار للعملات والسلع والخدمات.
ولدى المواطنين في هذه البلدان كامل الحرية في امتلاك العملة التي يريدون ووضع مدخراتهم وعرق جبينهم بالعملة التي يختارونها كالدولار واليورو والين والفرنك، أو بالأصل المالي كالعقار والأرض والسند والسهم وأي شيء يرونه مستقراً ويحافظ على قيمته.
ومن أدبيات هذه السوق خرجت العملة الإلكترونية، مثل بيتكوين، ابتعاداً عن مركزية الدولة والآثار السلبية على العملة من ممارساتها وسياساتها.
والحكومات، وفق هذه المنظومة، تنظر إلى الأشخاص بعين تنافسية، فهي تجتهد لجذب المستثمرين لاقتناء عملتها وإغرائهم باستقرارها والعوائد التي ستعود عليهم من جراء اقتنائهم لها.
هذه المقدمة ضرورية للدخول إلى منظومة أخرى لا تعتمد على أدبيات السوق الحر وتقرر عبر مركزية إدارية صارمة واحتكارية آليات تسعير تقوم على سعر صرف ثابت للعملة أمام العملات الأخرى وتراقب كل ما من شأنه أن يقوض سياساتها النقدية.
سورية واحدة من تلك البلدان، وإن كانت حكومة الأسد ما قبل عام 2011 حلحلت قليلا من القوانين الاقتصادية؛ بقي المشهد الاقتصادي العام تقرره الحكومة والناس المقربون منها، وليس السوق.
وشاهد القول هنا إذا عدنا إلى موضوع سؤالنا الرئيسي، فإن المنظومة الاقتصادية بعد 2011 اختُرقت، إذ لم تعد الدولة ممثلة بمؤسساتها، وأبرزها البنك المركزي من يحدد سعر الصرف ومسؤول عن الحفاظ على قيمة العملة.
ولم تعد الدولة أيضاً قادرة على الإمساك بزمام الأمور وتلبية احتياجات المواطنين من السلع والخدمات، ويُعزى هذا إلى اقتصاد الحرب الذي ساهم في نشوء سوق موازية تقرر محل السوق الرسمية، ومشرّع يسمى "أمير الحرب" أو "تاجر أزمة أو حرب" أو أي تسمية أخرى غير ذلك المشرع الاقتصادي؛ الحكومة ومؤسساتها.
فالتاجر والمستثمر والمستهلك وأي مواطن في المجتمع بات يلجأ إلى تلك الطبقة الجديدة لشراء العملات والسلع والخدمات، ولكن بدون ضوابط والتزامات، فما يميز اقتصاد الحرب، الفوضى والتكسب غير المشروع والتشظي والتفاوت الطبقي الهائل بين طبقات المجتمع والارتفاع العام في الأسعار.
فلت العقال من حكومة الأسد ولم تعد قادرة على فرض سياساتها، فهي لا تملك سوى قرار فارغ من محتواه، وسط عدم قدرتها على إمداد السوق والمواطنين باحتياجاته وهبوط قيمة العملة، واستلمت هذه المهمة سوق سوداء كل ما يهمها الربح، والربح فقط، وباتت المحرك الرئيسي للسوق بشكل أو بآخر، ولا ترتكز هذه السوق على قوانين وضوابط وتشريعات، بل تعتاش على غيابها وتخضع لأهواء ومصالح وأطماع تجار وأمراء الحرب وأشخاص وإداريين غير أكفاء.
إذن ما بعد عام 2011 دخل اقتصاد سورية مرحلة جديدة، تجلّت فيها ممارسات "اقتصاد الحرب" هيمنت وملكت نفوذاً مستقلاً في المجتمع. ومع هبوط مؤشرات الاقتصاد، اقتفى المواطن، مضطراً، أثر السوق السوداء وليس الدولة.
وبات المواطن في دمشق وحلب ودرعا والحسكة وحمص وأي منطقة يشتري ويبيع وفق أسعار السوق السوداء، وبإمكانه أيضاً أن يدخر القيمة بالطريقة التي يراها مناسبة حسب المنطقة التي هو فيها.
فمن يعيش في المناطق المحررة قادر على تحويل الليرة السورية إلى الدولار والليرة التركية واليورو وتعبئة مدخراته إلى إحدى تلك العملات، وفي دمشق قد يشتري المواطن للابتعاد عن هبوط قيمة الليرة منزلا أو أرضاً أو يُسيّل أصوله ويرسل أمواله للخارج.
ولدى الموطن؛ تاجراً أو مستهلكاً، وفق هذه الآلية، حرية كاملة في اتخاذ القرار المناسب. وليس لأحد أن يطلب منه اعتماد عملة محددة، فلا وجود لمشرّع يُصدر قوانين ويجبر الناس على الامتثال لها.
بعد أن عرفنا هوية الاقتصاد والبيئة الاقتصادية التي يعيش فيها المواطن السوري وطريقة اتخاذ قراره، فالحجج التي تساق لمطلب استبدال عملة سورية بنظيرتها التركية أو الدولار، تكمن في إضعاف نظام الأسد، ومنعه من الاستفادة من العملة الأجنبية في أسواق مناطق المعارضة، وتجنب الرضوخ لعملة جديدة يطبعها النظام لا تساوي الحبر الذي طبعت به، وأخيراً استقلال القرار الاقتصادي بعد استقلال القرار السياسي.
والواقع أن هذه الحجج جميعها مُحق، والجسم السياسي أياً كان والذي يحاول طرحها، متأخراً جداً، في حل المعضلة الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة التي يسيطر عليها.
على ذلك الجسم السياسي أن يعاود اختراق البيئة الاقتصادية ويفرض رؤيته فيها ليكون بمثابة المشرّع، وتطبيق باقة من الخطوات تبدأ بعدم التعامل مع النظام إطلاقاً من الناحية التجارية، واستبدال كل القنوات التجارية مع التجار في مناطق النظام بتجار من مناطق أخرى، وحصر كمية الليرات السورية في السوق وعدم السماح بإدخال أي قطعة أخرى لا قديمة ولا جديدة، وفرض عملية تسعير تنقل الأسواق من الحالة غير الرسمية والفوضوية والمتأثرة بالليرة السورية وهبوطها إلى حالة أكثر رتابة وعدالة تتيح له اعتماد آلية التسعير المناسبة في السوق، وتُطبقُ رقابة على الأسواق منعا للاستغلال وغسيل الأموال والممارسات غير الشرعية، والانفتاح على دول الجوار، على أن يُترك للسوق الحرية في حركة السعر عبر العرض والطلب.
ويجدر التنبيه إلى مسألتين؛ الأولى تتعلق بسبب هيكلي يمنع إصدار عملة جديدة تحمل اسم الليرة السورية، لأن المجتمع الدولي لا يزال يعترف بنظام الأسد كممثل شرعي لسورية، وثانياً اعتماد عملةِ بلدٍ في منطقة جغرافية محددة لا يعني ربط عملة بعملة أخرى، بل التخلي عن العملة الوطنية المتداولة في السوق واستبدالها بشكل كامل بالعملة الجديدة.
أما الآليات المطروحة للأثمان الداخلية فتكمن مقترحات التسعير إما بالاعتماد على عملة وحيدة للتسعير في السوق، فإن كانت الليرة التركية، وهو لا يحتاج، في تصوري، إلى إذن من الحكومة التركية، سيُفسره البعض أنه تبعية محضة لمنطقة سوريّة لاقتصاد وسياسة تركيا، ولم تتوفر تلك المؤسسة المالية القادرة على ضبط إيقاع الأسواق.
أما اعتماد الدولار فتكمن صعوبة تطبيقه في عدم توفر الدولار بشكل كبير، وثانيا بصعوبة تجزيئها كسعر للسلع والخدمات الصغيرة.
فيما الخيار الأنسب يتمحور في اعتماد سلة من العملات هي الليرتان السورية والتركية والدولار، واعتماد الأسواق 3 تسعيرات بعد توعية التجار والمستهلكين، تمكن المستهلك والتاجر من اختيار أي منها.
وإيجابية هذا الخيار أنه سيمكن المشرّع من تحديد كمية الليرة السورية في السوق وعدم إدخال غيرها، ومراقبة المعدل العام للأسعار بغية الحفاظ على استقراره، والاحتفاظ بالهوية الوطنية.
وربما الأمر المهم في هذه المنهجية هو وجود ذلك المشروع الذي فرض رؤية ويسعى لاستقلال اقتصادي، والتطلع قدماً إلى الأمام نحو خطط التنمية الاقتصادية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!