د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
عندما أغلقت الأبواب وبدأ الاجتماع السياسي الأمني الطارىء برئاسة رجب طيب أردوغان في القصر الجمهوري ومشاركة رؤساء القوات التركية وجهاز الاستخبارات لبحث سبل الرد على استهداف الجنود الأتراك في إدلب ، كان واضحاً أنَّ أنقرة تعد لخطة تحرك سياسي ودبلوماسي وعسكري سريعة متعددة الأهداف والجوانب .
المؤشر الأول على ذلك كان العمليات العسكرية البرية والجوية ضد مواقع النظام وجنوده وآلياته التي استهدفت بالعشرات. المؤشر السياسي كان التحرك الدبلوماسي الواسع نحو الغرب لتحريك حلف شمال الأطلسي ومجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي لتحديد مواقفه واتخاذ قراراته حيال ما يجري . التوجه الثالث كان نحو موسكو لإفهامها أن أنقرة جاهزة للتضحية بالكثير مما أنجزته معها لأنها وصلت إلى قناعة وجود المؤامرة الروسية ضدها في سوريا والمنطقة ومحاولة روسيا المساومة من وراء ظهر الأتراك مع لاعبين إقليميين في ملفات سوريا وليبيا وشرق المتوسط على حساب المصالح التركية. مشكلة أنقرة الوحيدة هي مع العواصم العربية الرئيسية في المنطقة وإسرائيل وهي علامات استفهام قائمة لا نعرف إذا ما كانت ستحمل لنا المفاجآت والجديد إذا ما قررت تركيا المضي في خططها الجديدة حتى النهاية.
أوجز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في كلمته الأخيرة أمام نواب حزبه أن بلاده تتحرك لإفشال مخطط نقل الأزمة الأمنية في شمال سوريا إلى مدن جنوب تركيا عبر لعب ورقة التنظيمات الإرهابية وتحريكها هناك . لكن أردوغان لم يقل لنا من هي الجهة التي تتآمر على تركيا. التوتر التركي الروسي المتصاعد في إدلب والاتهامات الموجهة لموسكو في دورها المكشوف عبر تحريك قوات النظام لاستهداف القوات التركية قد يعني أن رسالته هي موجهة للشريك الروسي المتمسك بحماية نظام الأسد وإبقائه في غرفة الإنعاش إلى أن ينتهي مفعوله. لا يوجد أي مؤشر حقيقي حول احتمال بروز التفاهمات التركية الروسية في إدلب رغم 4 جلسات حوار بين الجانبين ورغم إعلان القيادات السياسية عن استمرار التنسيق والتفاوض لمنع الانفجار الأكبر بينهما في سوريا. واشنطن تقول مجددا إنها جاهزة لتقديم كل الخدمات ما إن تعلن أنقرة عن تركها قرار الانفتاح الواسع على روسيا وتقليصه إلى مصالح تجارية واقتصادية مشتركة لا غير.
انقلاب الخطة الروسية التي كانت تحيكها ضد أنقرة وبعكس ما تشتهي موسكو حولها إلى قوة معزولة مستهدفة دبلوماسيا وسياسيا في سوريا. هل ستواصل أنقرة استغلال هذه الفرصة بدعم أميركي أوروبي وتحاول تسجيل المزيد من النقاط في المرمى الروسي أم أنها ستكتفي بهذا القدر لتقول للكرملين أنها ليست لقمة سهلة الابتلاع ؟
الإجابة على هذا السؤال هي عند الروس قبل غيرهم لأن أنقرة لن تتراجع عن قرار التصعيد ضد النظام المنتهي إقليميا ودوليا؟ فهل تتذرع موسكو بشرعية ما تفعله في سوريا لتحويله إلى حرب إقليمية في المنطقة تخوضها جنبا إلى جنب مع النظام وإيران والميليشيات اللبنانية والعراقية أم أنها ستقرأ متغيرات المشهد السياسي الإقليمي والدولي وتقرر القيام بجردة حسابات جديدة ؟ سيناريو التفاهمات الروسية الأميركية في سوريا وملفات المنطقة الحساسة الذي نناقشه بين الحين والآخر هو المفاجأة – الصدمة التي قد تقلب الحسابات مرة أخرى في المنطقة لكنه يبدو أنه مستبعد رغم إصرار بعض العواصم العربية والخليجية وإسرائيل عليه ؟
انطلاق العمليات العسكرية التركية هذا الصباح بشكل واسع ضد مواقع قوات النظام لإعادتها إلى تفاهمات سوتشي التي هي تركية روسية أساسا تعني وصول الحوار التركي الروسي إلى طريق مسدود وأن أنقرة حسمت موقفها في التحرك بعيدا عن سوتشي وأستانا بعدما غدرت بها موسكو تحت ذريعة الحرب على الإرهاب أو خروج القوات التركية من نقاط المراقبة المتفق عليها والتي كان ثمنها القرار الروسي بمهاجمة الجنود الأتراك عبر مقاتلات النظام التي لم تعد سوى دمية بيد موسكو.
موسكو لا تريد أن نسألها لماذا تعطي الضوء الأخضر لغارات إسرائيلية تصل إلى قلب العاصمة السورية وتستهدف سيادة سوريا التي دخلت للدفاع عنها بينما تصعد ضد تركيا وتحول دون دخول مقاتلاتها الأجواء الشمالية للدفاع عن قواتها المسلحة هناك .
القناعة التركية هي أن روسيا وصلت إلى استنتاج قدرتها على فرض كل ما تريده في سوريا على الجميع بمن فيهم أنقرة وأن قرار التصعيد العسكري ضد قواتها في إدلب هو اكتشاف موسكو للعزلة التركية الإقليمية والانسداد في العلاقات التركية الغربية الواجب استغلاله سريعا لحسم الأمور في سوريا بالصيغة التي تريدها . لهذا نرى اليوم كل هذا التصعيد التركي الذي يبدو أيضا وكأنه رسالة تركية لموسكو حول استعداد أنقرة لترك الكثير من تفاهماتها مع روسيا حتى ولو كان الثمن مكلفا لإنقاذ ما بيدها في سوريا كي لا تخسر كل شيء هناك .
أنقرة تريد أيضا أن تقول للمجتمع الدولي واللاعبين الإقليميين إنها لم تعد قادرة على تحمل أعباء الملف السوري وارتداداته السياسية والأمنية والاقتصادية عليها. تركيا لا تريد أن ترى ثلث الشعب السوري عندها وتتحمل بمفردها الكلفة المادية والسياسية والاجتماعية لسيناريو من هذا النوع . الحجر الأول الذي حركته على رقعة الشطرنج هو فتح الحدود أمام الراغبين بالمغادرة إلى أوروبا من اللاجئين والأجانب فوق أراضيها وها هي تقول للأوروبيين احترموا حقوق الإنسان ولا تتركوا الآلاف في العراء في هذا الفصل أمام الحدود اليونانية .
تواصل تركيا إرسال المزيد من القوات والعتاد إلى إدلب وجوارها بهدف التحضير لإنشاء منطقة آمنة رابعة هناك تعرقل تقدم قوات النظام السوري أكثر من ذلك وتبقي مئات الآلاف من النازحين داخل أراضيهم بحماية دولية وفرض نفسها على أية طاولة تناقش الملف السوري إقليميا أو دوليا .
نتحدث عن تفعيل ميثاق حلف شمال الأطلسي لكننا لا نتحدث عن تفعيل اتفاقية المضائق التركية الموقعة في مونتروي عام 1936 . أنقرة قد تطالب حلفاءها في المنظومة الأطلسية بالاستجابة للمادة الخامسة من ميثاق الحلف التي تتطلب التضامن معها لحماية أمنها القومي إذا ما توترت الأمور وانفجرت عسكريا في إدلب. لكنها قد تفعل المادة 21 من اتفاقية مونتروي والتي تعطيها حق منع عبور السفن الحربية التابعة للدول التي تحاربها أو تشعر أنها تشكل خطرا على أمنها القومي لمضيقي البوسفور والدردنيل التركيين.
أين ومتى وكيف سيكون ميلاد إدلب أو سوريا الجديد؟ مطلع شهر آذار المقبل مع حسم أنقرة لموقفها باتجاه التقدم نحو إخراج قوات النظام من المناطق التي دخلتها. أم بعد الخامس من آذار وعلى ضوء تفاهمات تركية روسية جديدة أو قمة رباعية تركية روسية فرنسية ألمانية رفضتها موسكو حتى الأمس؟
التحول في الموقف الأميركي ورسائل حلف شمال الاطلسي والكلمات الهجومية العنيفة ضد روسيا في مجلس الأمن تقول إن تركيا حققت بعض ما تريده وأنها ستواصل استغلال الفرصة.
تركيا تغير في سياستها السورية وهي تقول لموسكو إنه عليها أن تفعل الأمر نفسه لكن ليس باتجاه التصعيد والذهاب نحو سيناريوهات التصادم بل قبول قدرات تركيا على المواجهة والتصدي للخطط الروسية حتى ولو كان ذلك على حساب انفتاحها وثقتها بموسكو في الأعوام الأخيرة. هل تنجح أنقرة في منع الانتحار الروسي في سوريا وتحويل ذلك إلى كارثة إقليمية يدفع ثمنها الجميع؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس