د. جمال نصار - خاص ترك برس
يشهد تاريخ الإنسانية على امتداده الطويل أن نهضة الأمم والشعوب لابد لها من أسباب، وسنن حتى تعلو وتزدهر، ويستمر هذا التقدم لعشرات السنين بل المئات إذا حافظت هذه الشعوب على أسباب النهضة والرقي والتقدم. وهذا حدث قديمًا؛ حينما أخذت الأمة الإسلامية بأسباب النهوض والتقدم، وكانت منارة للعالمين.
والتاريخ ذاته يؤكد أن علو المستبدين وتمكُّنهم يستمر لبعض الوقت وقد يطول، حسب مقاومة الشعوب وصدهم للطغيان والاستبداد؛ فإن واجهوه بكل الوسائل وقضوا عليه، زال الاستبداد وانقضى، أما إذا خنعوا واستسلموا للمستبدين يطول بهم الوقت مع المعاناة التي يلاقونها من جرّاء سكوتهم واستسلامهم. هذه سنن الله الغلّابة التي لا تحابي أحدًا.
طبيعة الواقع الذي نعيشه
المشاهد للواقع الذي نعيشه يجد أن العالم العربي والإسلامي وصل إلى حالة من التردي والانكسار، لم تحدث من قبل؛ فنجد أن الحكام يتسلطون على شعوبهم ويسيمونهم سوء العذاب في شتى المجالات، ويهدرون مقدراتهم إما لمصلحتهم الشخصية، أو خدمة لأعداء الأمة، ويواجهون المصلحين بكل عنف وقسوة؛ بالسجن تارة، والقتل تارة أخرى، والإبعاد القهري تارة ثالثة، والنتيجة أن أغلب هذه الدول تقع في ذيل القوائم التي ترصد مؤشرات النمو الحقيقي، والتطور الاقتصادي، والتقني والحكم الرشيد، وكل ما يمتّ إلى التقدم والمدنية بصلة، وذلك في نفس الوقت الذي وصلت فيه أعداد المسلمين إلى أرقام غير مسبوقة من الازدياد العددي والانتشار السكاني، مما يستخدم كدليل على ضعف فعالية الفرد المسلم، وانخفاض إنتاجيته مقارنة بأقرانه من مواطني الدول التي تحتلّ رأس تلك القوائم على المستوى العالمي، أو على الأقل فإن إدارة دول ما يسمى بالعالم الثالث لمواردها البشرية والمادية تعوزها الكفاءة، والفعالية في سياق المقارنة مع الدول المتقدمة.
ومن أهم الأمراض العضال التي تواجه الأمة العربية والإسلامية، وتقضي على كل شيء فيها؛ الاستبداد الذي جثم على صدورها لمئات السنين، وأدى إلى اعتياد الشعوب في بعض الأوقات للظلم والقهر، بدلًا من المواجهة والصد.
المقومات الأساسية للنهوض
إن حركة التاريخ وسنن الحياة في هذا الكون تبين لنا أنه لا يوجد نصر دائم ولا هزيمة دائمة، كما أنه لا نهضة دائمة، ولا تراجع دائم في التاريخ إلا بتوفر أسباب ومقومات هذه النهضة أو النصر.
والسنن الكونية لا تحابي أحدًا، فمن يمتلك مقومات النهضة سينهض وعليه أن يحافظ على مقوماتها وأسبابها لكي يحافظ على نهضته ونجاحه، والحفاظ على النجاح أصعب من تحقيقه.
فكما تصدّرت الأمة الإسلامية العالم لعدة قرون، في وقت سابق، بسبب تحقيق مقومات النهضة، وتراجعت الآن بسبب عدم محافظتها على مقومات النهضة، وتقدمت الأمم الأخرى لأنها امتلكت هذه المقومات، والتاريخ لا يرحم أحدًا؛ لذلك على أية أمة تريد أن تنهض وتستعيد مجدها مرة أخرى، فعليها أن توفر مقومات التقدم والرقي، منها:
أولًا: الحرية: فالأمم والشعوب الحرّة هي الأقدر على الصدارة، وعلى الإبداع والتميز والانفتاح في جميع مجالات الحياة، والشعب الحر تكون تحركاته منضبطة بضابط ذاتي وأخلاقي بدافع داخلي بدون تأثير خارجي يفرض عليه ما يريد، بعكس الأمم والشعوب التي تعيش تحت العبودية، والظلم، والاستبداد، والطغيان تكون عاجزة وضعيفة، وغير قادرة على الإبداع والإنتاج إلا في الحدود التي يسمح بها الطغاة، وتغلق العقول والأفواه إلا بما يرضي أصحاب القرار والقيادة لهذه الشعوب، والتي غالبًا ما تستخدم القوة والترهيب للسيطرة على شعوبها كما هو واقع أغلب الدول العربية والإسلامية للأسف الشديد.
ومطلب الحرية مطلب عظيم، فالإسلام إنما جاء من أجل الحرية في الحقيقة، وحتى الفتوحات الإسلامية جاءت من أجل إزاحة الطغاة، وعرض الإسلام على الناس، والجهاد نفسه لم يكن هدفه فرض الإسلام على الناس، لأنه لا إكراه في الدين. فهذا مبدأ قطعي تشهد عليه مئات من النصوص، فأفضل الجهاد إذن هو إزاحة الطغاة والجبارين، وتحرير إرادة الأمة من المستبدين، فإذا تحرر الناس من الاستبداد والطغاة عاشوا حياة طبيعية، ليس فيها عنت أو ظلم، والحرية لا توهب ولكنها تنتزع.
ثانيًا: العلم: فهو أحد أعمدة بناء الأمم وتقدمها، فبالعلم تُبنى الأمم وتتقدم، ويساعد على النهوض بالأمم المتأخرة، ويقضي على التخلف والرجعية، والفقر، والجهل، والأمية، وغيرها من الأمور التي تؤخر الأمة، فالعلم من أهم ضروريات الحياة، كالمأكل والمشرب، وغيرها.
ولذلك فإن الدول المتقدمة في العالم، والمتطورة تتميز بصفة مشتركة أنها دول متقدمة في العلم بكافة مجالاته وجوانبه، وكذلك تتميز بتخصيص ميزانيات ضخمة من أجل تطوير العلم والبحث العلمي.
أما الدول المتأخرة والمتخلفة فلا تهتم بالعلم، ولا بالبحث العلمي بالقدر الذي يحقق نهضة علمية حقيقية يمكن من خلالها أن تنهض وتتصدر هذه الدولة، بل يدّعي المستبدين أنهم هم العلماء، ويهمِّشون دور العلماء ويحاربونهم.
ولا يقتصر أثر التعليم فقط على تحسين إنتاجية العمل بل يتعدى ذلك كله إلى التأثير على نوعية الحياة بمفهومها الشامل، فالتعليم يؤثر على السلوك الثقافي والاجتماعي للأفراد، ويخدم المجتمع من خلال القدرة على زيادة المهارات، الأمر الذي يتيح الفرص أمام أفراد المجتمع للتقدم المادي والاجتماعي.
كما نبه رسولنا الكريم على أهمية العلم، وأن ضياعه يعنى ضياع الأمم، وجعله من علامات الساعة، فعن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويثبت الجهل"، وفي رواية أخرى: "يقل العلم، ويكثر الجهل، ويُشرب الخمر، ويظهر الزنا".
ثالثًا: التمسك بالقيم الإنسانية والحضارية: فهي من المقومات المهمة والضرورية لنهضة الأمم ورقيها، كالعدل، والتعاون، والإيجابية، والتسامح، والتعايش، والرحمة، والصدق، والأمانة، وغيرها من القيم النبيلة، فكلما كانت الأمة تمتلك قيمًا إنسانية حضارية في واقعها وحياتها كانت أقرب إلى النهضة والنجاح والتقدم، والمنظومة القيمية في الأمة معيار أساسي في نهضتها، وفي كل مجال من مجالات الحياة قيمة عليا محورية على الجميع احترامها وتقديمها على باقي القيم الأخرى، فمثلاً القيمة العليا في المستشفيات هي الصحة، وما سواها قيم ساندة، والخطط والإجراءات فيها يجب أن تدعم هذه القيمة، وكذلك القيمة العليا والمحورية في الجامعات والمدارس هي العلم، وفي المصانع الإنتاجية والعمل هي القيمة العليا وهكذا. فالمنظومة القيمية في المجتمع من أهم مقومات النهضة للأمم والشعوب.
دور الشباب في النهضة والتغيير
الشباب هم أساس نهضة الأمم، وسر قوتها، وحامل رايتها، والمستقبل الواعد، وتقدم أي أمة وقلبها النابض وساعدها القوى، وهم عماد أى حضارة ونهضتها، وهم الشريحة الأكثر حيوية وتأثيرًا فى أى مجتمع ويسهمون بدور فعّال فى تشكيل ملامح الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل، والمجتمع لا يكون قويًا إلا بشبابه فهم قادة سفينة الوطن نحو النمو والتقدم.
ولابد من إشراك الشباب فى الحياة السياسية والاجتماعية، وإفساح المجال لهم فى مؤسسات المجتمع المدنى والأحزاب السياسية، والاعتماد عليهم وعدم تجاهلهم، لأن هذا يُعدّ جريمة في حق المستقبل للأمم التي تريد أن تنهض من كبوتها، فالأوطان لا تبنى إلا بسواعد شبابها، فالشباب فى الماضى أو الحاضر أو المستقبل هم الذين يحدثون التغيير، والتجديد فى الأفكار، وفى القيادة إذا ما ساروا على الطريق الصحيح المرسوم لهم فى اتجاه التنمية والتقدم.
من أجل هذا وصانا الرسول الكريم بالشباب فقال: "استوصوا بالشباب خيرًا فقد نصرنى الشباب وخذلنى الشيوخ". فلابد من إشراك الشباب الواعى المثقف فى تحمل المسئولية وتعظيم دورهم فى المجتمع، لأنهم هم بناة النهضة لحضارة أى أمة. ولابد من إعداد الشباب وتسليحه بالعلم والمعرفة لمواجهة تحديات العصر وخوض غمار المستقبل لأن التعليم هو القاعدة الأساسية والمؤهل إلى بناء العقول.
ومن جانب آخر ينبغى على الشباب تحدى الصعاب، وأن يهتموا بالعلم والمعرفة، والإبداع، والابتكار، والعمل، والإنتاج فهو السبيل لنهضة الأمم، وأن يعلموا أن التفوق، والمجد لا يهبط من السماء إنما يتحقق بالجهد والعرق، وبتوفيق من الله.
ومن ثمّ إذا انتشر الفساد في أمة وتملّكها، وسيطر عليها المستبدون والطغاة، وتحكّموا في مصيرها وخيراتها، وتم الاستهتار بالحريات العامة، وتكميم الأفواه، ومنع حرية التعبير، وإهدار القيم والمبادئ والتعليم، وسيادة الجهل والمحسوبية، ومحاربة المصلحين والعلماء والشباب وسجنهم واستبعادهم؛ فلا شك أن هذه الأمة ستكون في ذيل الأمم، ولن تقوم لها قائمة إلا بالتخلص من الاستبداد ومظاهره.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس