ترك برس
صدر مؤخراً كتاب "العثمانيون في تونس 1505-1957، للمؤلف الدكتور محمد صالح بن مصطفى، وهو أستاذ في التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس.
الكتاب الذي صدر عن دار نقوش عربية، يسلّط الضوء على تاريخ العثمانيين بالبلاد التونسية الذي امتد 452 عاما، عرفت خلالها تونس أنظمة متفرعة عن الحكم العثماني طبعت الجذور التونسية، ويقدم حصيلة بحث علمي حول العثمانيين في تونس شمل التاريخ السياسي والآثار المعمارية والتغيرات المجتمعية والسلوكية التي ساهمت في بلورة طابع تونسي ميز البلاد، بحسب تقرير للجزيرة نت.
ويرجع بن مصطفى دوافع تأليفه لهذا الكتاب الذي جاء نتيجة بحث علمي دقيق تواصل على امتداد أربع سنوات، إلى شعوره بشغف التونسيين من عامة الناس بمعرفة تفاصيل عن تاريخ البلاد، لذلك فهو لا يتوجه إلى المؤرخين والمختصين في المجال، بل سعى من خلاله إلى تبسيط مفاهيم وأحداث تتعلق بهوية وجذور التونسيين.
ويضيف أنه اختار الاعتماد على اللغة البسيطة والأسلوب السلس في الكتابة ليخرج عن الصورة النمطية للمراجع التاريخية التي يصعب فهم تعابيرها ومتابعة قراءتها، معتبرا أنه استمد هذا الأسلوب المبسط من "البيداغوجيا التعليمية" (علم التربية) التي مارسها طيلة أربعة عقود في مساره المهني أستاذا للتاريخ.
يسرد الكتاب في جزئه الأول تفاصيل الصراع الذي قام بين الإخوة القراصنة "بربروس"، والجيوش الأوروبية المسيحية خاصة الإسبان والذي أفضى إلى تكوين وفاق بين مغامرين عثمانيين وأندلسيين ومسيحيين متحولين باحثين عن غنائم من السطو على السفن.
ويفصل كيف استغل سلاطين تونس والجزائر آنذاك هذا الوفاق للتربح أولا ثم في مرحلة ثانية لدرء الخطر الإسباني، لتتحول طموحات القرصان خير الدين بربروس من الانتقام وكسب الغنائم إلى السياسة والحكم بإعلان ولائه للسلطان العثماني سليم الأول مؤسسا بذلك مرحلة جديدة ستتواصل لأكثر من 450 عاما من الحكم العثماني في تونس.
يقول الدكتور بن مصطفى "إن الصراعات التي اندلعت إثر ذلك والحكم الذي انبثق عن الوجود التركي العثماني في تونس الذي تلا سقوط الدولة الحفصية سنة 1574 ساهم في بلورة "طابع تونسي" ميز ولا يزال البلاد وسكانها.
وتابع المؤلف قائلا إن تأثيرات تلك الحقبة الاجتماعية والثقافية ما زالت قائمة إلى الآن وهو ما ساهم في تأسيس ما اعتبره "الاستثناء التونسي" على الصعيدين المغاربي والعربي "الذي نعيش ارتداداته في الوقت الحاضر".
اعتمد المؤلف في كتابه على 118 مرجعا ومقالا علميا، إضافة إلى وثائق من الأرشيف التونسي والمعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية دون إغفال ما أسماه "أرشيف الصدور" المتمثل في مطابقة ذكريات عديد من التونسيين الذين عايشوا فترات بعيدة من تاريخ البلاد.
ويقول بن مصطفى إنه أراد من خلال الكتاب أن يشفي غليل المتطلعين إلى سبر أغوار هذه الحقبة الهامة من تاريخ تونس والتي تثير جدلا تقييميا كبيرا حاول الهروب به من معارك المنابر الأكاديمية إلى تقييم غير المختصين من أبناء الشعب التونسي الباحثين عن حقائق الأمور.
ويتعقب الكتاب، الذي أراد صاحبه أن يكون "موسوعة" لفترة الحكم العثماني لتونس، كل الشخصيات التي مثلت جزءا مهما من الذاكرة الشعبية للبلاد، والتي طبعت المشهد السياسي إبان فترة الإيالة التونسية وعلاقاتها وتفاعلاتها مع مركز الحكم العثماني في الأستانة (إسطنبول) آنذاك.
والإيالة هي نوع من التقسيم الإداري للمناطق اتبعه العثمانيون، وكان يرأس الإيالة بيكلربكي، وظل نظام الإيالات ساريا إلى أن استبدل بنظام الولايات.
ويعتبر بن مصطفى في كتابه أن حكام العهد العثماني الذين سيطروا على البلاد بنوا سلطتهم على ركيزة الانتماء الديني، فالإسلام الذي ساندوه واستمدوا منه دعم الأهالي ساهم إلى حد ما في قبولهم شعبيا باعتمادهم الدين مرجعا في الميادين القانونية والعدلية، ليقتصر بذلك دور السلطة السياسية على حق التنظيم والردع، على حد قوله.
ويضيف أن المشروعية الدينية التي اكتسبها العثمانيون عن طريق مواجهة المد الإسباني المسيحي في البداية تحولت فيما بعد إلى مشروع توسعي بني على قوة الجند، خاصة أنهم جلبوا تقنيات عسكرية وقتالية كان يجهلها السكان الأصليون للبلاد في تلك الحقبة.
يعبر الدكتور بن مصطفى عن اعتزازه بهذا الجزء من الكتاب، حيث بوب -حسب فترات تاريخية من الحكم العثماني لتونس- أفواج الوافدين من موريسكيين وعثمانيين ويهود وحتى أوروبيين، مبينا الدوافع الاجتماعية والسياسية التي وقفت وراء هذه الهجرات وتأثيراتها في النسيج الاجتماعي والثقافي للتونسيين.
يقول المؤلف إن الإيالة التونسية عرفت خلال الحكم العثماني تحولات عميقة على الصعيد الديموغرافي والعرقي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي مما جعل سكانها يكتسبون سلوكيات جديدة.
ودفع هذا المعطى التاريخي الباحث إلى اعتماد دراسة التطورات والتغيرات التي عرفتها الإيالة التونسية في تلك الفترة والتي طرأت تدريجيا على المستوى الديموغرافي وعلى السلوكيات الاجتماعية لسكان إفريقيا بعد أن تبلورت ملامحها مع الدولة الحفصية في الثلث الأول من القرن 13.
ويذكر بن مصطفى في الباب الثالث من الكتاب أنه بمجرد تحويل تونس إلى ولاية تابعة للباب العالي على يد سنان باشا (قائد الحملة العثمانية لتونس في 1574)، توزعت هيئات عدة، جلها عسكرية، على عديد المناطق من شمال الإيالة إلى جنوبها، وأدى زواج بعض الأتراك العثمانيين من تونسيات إلى ولادة ألقاب وعائلات جديدة في تلك الفترة، مثل العائلة الحسينية.
ومن أبرز رجالات الدولة العثمانية في تونس العثمانية خير الدين التونسي (1820-1890) الذي تولى رئاسة الوزراء بتونس قبل أن يغادرها لإسطنبول ليشغل منصب الصدر الأعظم العثماني.
كان خير الدين باشا محبا للإصلاح حيث أيد وثيقة عهد الأمان التي صدرت عام 1857، وأقرت تساوي التونسيين في الحقوق. وساهم عام 1861 في وضع قوانين المجلس الأكبر (مجلس الشورى) المكون من ستين عضوا وتولى رئاسته.
يبرز الدكتور بن مصطفي مقولة تفيد بأن العصر العثماني ساهم في ظهور سلوكيات ومهارات جديدة اكتسبها السكان، تراوحت بين الإيجابية البناءة التي دفعت بالفنون والعلم والعمارة إلى مستويات متقدمة، نظرا لتنوع النسيج الاجتماعي والثقافي الذي انصهر مع موروث التونسيين.
وكذلك ظهرت سلوكيات سلبية ساهمت الاضطرابات والحروب والفقر الذي وسم بعض مراحل العصر العثماني في تفشيها، مثل شرب وصناعة الخمر والتبغ والمخدرات وألعاب الرهان العصري، وعرفت هذه الممارسات نسقا تصاعديا مع قدوم المستعمر الفرنسي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!