د. علي حسين باكير - عربي 21
تسعى ألمانيا مؤخراً إلى خلق الأرضية اللازمة لدفع تركيا واليونان إلى التفاوض بعد أن يتم خفض التصعيد الحاصل شرق البحر المتوسط. حتى الآن لم يلق موقفها آذاناً صاغية لدى الجانب اليوناني الذي يعمل على توسيع تحالفاته من خلال ضم قبرص وفرنسا وعدد آخر من الدول إلى معسكره المعادي لتركيا.
خارطة الموقف الأوروبي
من ناحيتها، منحت أنقرة برلين عدّة أوراق كبادرة حسن نيّة كان من بينها إعلان تعليق عمليات المسح والتنقيب على النفط والغاز شرق المتوسط، كما أنّها تبنّت الدعوة إلى جعل سرت والجفرة منطقة منزوعة السلاح وهي مقترح ألماني في الأساس. هدفت الخطوات التركية هذه إلى تقوية دور ألمانيا في الملف الليبي وإلى دعم دور برلين في الوساطة على اعتبار أنّ أنقرة لها مصلحة مباشرة في عدم توحيد صفوف الأوروبيين أولاً، وثانياً في توسيع الفجوة بين ألمانيا وكل من اليونان وفرنسا.
لكنّ الجهود الألمانية اصطدمت حتى هذه اللحظة برغبة اليونان وحلفائها في تصعيد الأزمة بدلاً من تخفيض التصعيد، وقد وجّهت أثينا أولى الضربات ضد جهود برلين بعقدها اتفاقية بحرية مع القاهرة بعد أن كانت أنقرة قد أوقفت عمليات المسح لإعطاء المساعي الألمانية فرصة. كما تعرّضت الجهود الألمانية لضربة ثانية في المناورات التي أعلنت اليونان عنها بمشاركة قبرص وفرنسا شرق البحر المتوسط تبعها تصديق البرلمان اليوناني على الاتفاقية التي عُقدت مع مصر.
الاتحاد الأوروبي منقسم على نفسه إزاء طريقة التعامل مع الموضوع. ألمانيا وإسبانيا وإلى حد ما إيطاليا أيضاً تحاول أن تجد حلّاً للموضوع وهي على دراية بأنّ اليونان وفرنسا تريدان جرّ الاتحاد إلى مواجهة مع تركيا لا مصلحة لهم فيها. على المقلب الآخر، تسعى اليونان بدعم فرنسي إلى قرصنة موقف الاتحاد الأوروبي. اليونان بالتحديد تعلم أنّ لا حظوظ لها في مواجهة تركيا منفردة لذلك هي تحاول تقديم النزاع مع أنقرة على أنّه نزاع بين الاتحاد وتركيا. حتى الآن فشلت اليونان في جر الاتحاد بأكمله إلى المعركة لكنّها حظيت بالدعم الفرنسي، وباريس التي تسعى إلى تحقيق تطلّعاتها الخاصة تدير سياسة خطيرة تقوّض وحدة الناتو والاتحاد من خلال التقرّب من روسيا والتحريض على تركيا.
محددات الموقف الأمريكي
الموقف الأمريكي تجاه النزاع الجاري شرق البحر المتوسط متقلّب تبعاً للعلاقات السياسية مع أطراف النزاع. الولايات المتّحدة من حيث المبدأ ليست عضواً في معاهدة قانون البحار وبالتالي فإنّ وضعها مشابه لوضع تركيا لناحية الرؤية القانونية. اعتراضها على التصور التركي لترسيم الحدود البحرية شرق البحر المتوسط يضعها في موقع متضارب مع كونها دولة ليست عضوا في المعاهدة، لكن بسبب التوتر الذي أصاب العلاقات الأمريكية-التركية خلال الأعوام الماضية بالإضافة إلى موقف الكونغرس المعادي تقليدياً لأنقرة، فقد انحازت واشنطن إلى موقف قبرص واليونان من خلال قانون شراكة الأمن والطاقة شرق البحر المتوسِّط الذي قدّمته نهاية العام ٢٠١٩.
لكن مع بداية العام ٢٠٢٠، بدأت إدارة ترامب تعيد حساباتها لاسيما مع بروز أولويات مختلفة لدى وزارة الدفاع الأمريكية تقوم على محاولة احتواء التوسّع الروسي في المنطقة لاسيما في سوريا وليبيا. ولذلك، فقد كانت واشنطن بحاجة إلى دور تركيا لاسيما بعد أن أثبتت أنقرة أنّها لا تتورّع عن تحدّي حلفاء موسكو ووضع ضغوط على الموقف الروسي -ضمن حدود قدراتها- في هذه الميادين. دفعت هذه الحاجة واشنطن إلى مراعاة الموقف التركي شرق البحر المتوسط مؤخراً، وهي إن لم تعلن عن انحيازها لتركيا إلاّ أنّها أصبحت أكثر مرونة في ابتعادها عن الانحياز الكامل لليونان.
ظهرت أولى مؤشرات هذا التموضع الجديد مع زيارة رئيس الوزراء اليوناني إلى واشنطن بداية هذا العام، حيث التقى الأخير ترامب وحاول إقناعه بالضغط على تركيا لاسيما بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، لكنّ ترامب لم يكن متحمّساً لموقف رئيس الوزراء. فضلاً عن ذلك، فقد أبدى ترامب آراء شخصيّة إيجابية تجاه الرئيس التركي منذ ذلك الحين، وهو ما فسّره اليونانيون على أنّه دعم للموقف التركي.
هناك نقطة أخرى تتعلق بهذا الجانب كان جون بولتن قد كشف عنها في كتابه "الغرفة التي شهدت الأحداث" وتتعلق بموقف ترامب من الرئيس الفرنسي ماكرون. وفقاً لما ذكره بولتن، فإنّ ترامب ينبذ ماكرون ويعتقد أنّ أي ملف يتدخّل الأخير فيه يتحوّل إلى كارثة. علاوة على هذا، فإنّ آراء ماكرون ومعتقداته حول وضع حلف شمال الأطلسي الذي يعتبره "ميتا دماغيا"، وحول ضرورة دمج روسيا في منظومة أمنيّة أوروبيّة تتعارض مع موقف البنتاغون الذي يميل إلى تركيا كما سبق وشرحنا.
وبالرغم من أنّ واشنطن كانت قد أجرت منارات عسكرية مشتركة مع تركيا مؤخراً شرق المتوسط لكن من الأهميّة بمكان أن نعي أنّه لا يمكن التعويل عليه لثلاثة أسباب. الأوّل أنّ البنتاغون يميل إلى تركيا لغاياته الخاصة وليس اقتناعاً بموقف تركيا، وهذا الأمر قابل للتحوّل حال تحقيق ما يريده. الثاني أنّ الكونغرس يسيطر عليه الموقف المعادي لتركيا بسبب قوة ودور اللوبيات، ولذلك فهو عنصر ضاغط في المعادلة. أمّا الأمر الثالث فهو أنّ موقف ترامب ليس ضمانة أكيدة، فهو متقّلب كما هو معروف ويمكن أن يتغير في أي لحظة.
مصلحة تركيا تقتضي بشكل عام تحقيق ثلاثة أهداف.. أولاً، تحييد الأمريكيين على الأقل كي لا يدعموا اليونان، والموافقة على دعوة الحوار التي أطلقوها مؤخراً. ثانياً، دعم الموقف الألماني لكي يعزز ذلك من صورة أنقرة كدولة تسعى إلى حل الخلاف عبر الحوار بالإضافة إلى منع توحيد صفوف الأوروبيين الداعمين لليونان. ثالثا، تقييد دور الدول غير الأصيلة في النزاع والتي تستثمر فيه وتحاول إشعاله ويتمثّل تحديدا بفرنسا والإمارات.
الفشل في تحقيق هذه الأهداف سيؤدي إلى تقويض موقف أنقرة شرق البحر المتوسط وإن كانت تتفوق على اليونان اقتصاديا وعسكرياً، كما أنّه سيضعها تحت الضغط ويزيد من احتمالات الانزلاق باتجاه مواجهة عسكرية. هل ستنجح ألمانيا في نزع الفتيل بعد توليها رئاسة الاتحاد؟ حظوظ النجاح والفشل متساوية باعتقادي إلى حين تحييد الدور الفرنسي على الأقل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس