سعيد الحاج - عربي 21
صراعات كثيرة نشبت عبر التاريخ ثم ما لبثت أن انتهت دون تأثير كبير ولم يبق منها إلا الذكرى، فمثلاً تواجهت ألمانيا وفرنسا في الحرب العالمية الثانية، لكنهما اليوم العمودان الرئيسان للاتحاد الأوروبي. بينما تمتد صراعات أخرى عبر السنوات ولا تجد علاجها مع الوقت، ويبدو أن النزاع بين تركيا واليونان من هذا النوع الثاني.
من أسباب ذلك أنه يتداخل فيه البُعد التاريخي مع الديني مع القومي، لكن الأهم أن مفاعيله ما زالت قائمة اليوم، بل وربما تفاقمت. فما زال الخلاف سارياً حول السيادة على بعض الجزر لا سيما في بحر إيجه، إضافة لشعور تركيا بالغبن الذي لحق بها تاريخياً من خلال تنازل إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية لليونان عن بعض الجزر كانت اتفاقية لوزان 1923 قد منحتهم لإيطاليا.
الأهم أن تطورات السنوات الأخيرة قد شدّت حبل العلاقات بين الجانبين. فالثروات المتوقعة في أحواض شرق المتوسط جعلت الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية بما في ذلك تحديد الجرف القاري للدولتين والجُزر ذات أبعاد جيوسياسية ومتعلقة بأمن الطاقة في آن معاً، فضلاً عن استثارة مطامع أو مخاوف بعض الأطراف. وأخيراً، فإن التحولات التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، وخصوصاً على صعيد التحالفات والاصطفافات، نقلت الأمر من خلاف ثنائي بين دولتين جارتين إلى أزمة إقليمية متعددة الأطراف.
وهكذا، بات حل الخلاف القائم بين الجانبين أصعب بكثير مما هو عليه حقيقة. لا تريد أنقرة الحرب ولا تريدها أثينا كذلك، لكن سيولة التطورات وسخونتها تقولان بأن أي خطأ غير مقصود أو خطوة غير محسوبة قد تشعل فتيل الصدام. فالخلافات عميقة، والمواقف حادة، وسقف التصريحات مرتفع، والتحشيد العسكري قائم. ولكن الأهم من كل ما سبق، والأخطر ربما، هو تدخل أطراف ثالثة على خط الأزمة من باب التوتير لا المساهمة في الحل.
لا نتحدث هنا عن الاتحاد الأوروبي ولا حلف شمال الأطلسي، فكلاهما تقدم بمبادرات للوساطة وتقريب وجهات النظر لتهدئة الأوضاع، إلا أنها جميعها باءت بالفشل حتى اللحظة. وإنما نتحدث عن قوى إقليمية ودولية كان تدخلها في الأزمة وفقاً لحساباتها الخاصة ومكاسبها الذاتية، وأخرى يمكن أن تلعب دوراً مهماً لكنها لم تبلور موقفاً واضحاً وحاسماً تجاه الأزمة رغم خطورتها.
في المقام الأول هناك فرنسا، التي تبدو في كثير من الأحيان أعلى سقفاً من أثينا في مواجهة أنقرة، في موقف يتناغم مع موقفها المتصلب من ملف انضمامها للاتحاد الأوروبي ومناكفتها لها في مختلف القضايا الإقليمية من سوريا إلى ليبيا إلى العراق وصولاً إلى لبنان مؤخراً.
تصريحات توتيرية كثيرة أطلقها ماكرون تجاه أنقرة، مثل تحذيره في بغداد من “التدخلات الخارجية التي تضعف الدولة العراقية” وفي لبنان من “قوى أخرى قد تتدخل سواء أكانت إيران أو السعودية أو تركيا”، وصولاً إلى حديثه إنه “وضع خطوطاً حمراء” لأنقرة في شرق المتوسط لأنها حسب قوله “تحترم الأفعال لا الأقوال”.
الموقف الفرنسي لم يتوقف عند التصريحات وإنما تعداها لعدد من الخطوات الميدانية التصعيدية. ففي آب/أغسطس الفائت، أي في ذروة التوتر بين تركيا من جهة واليونان وقبرص اليونانية من جهة أخرى، فعّلت فرنسا مع قبرص اليونانية اتفاقية للتعاون الدفاعي أحد أبرز ملفاتها “التعاون الأمني البحري”، أُرفِقَ بالإعلان عن “تدريبات مشتركة وزيارات متبادلة في إطار أنشطة القوات المسلحة للبلدين” قريباً. وهو أمر بالغ الحساسية بالنسبة لتركيا بالنظر إلى استمرار الأزمة القبرصية دون حل، بما يعني قصور تمثيل حكومة قبرص الجنوبية.
إضافة لذلك، فقد نقلت وسائل إعلام يونانية عن مرافقة عدد كبير من السفن والقطع الحربية اليونانية لحاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديغول” لدى انتقالها لشرق المتوسط، في خطوة عُدَّت موجهة ضد تركيا. فضلاً عن تفاوض البلدين حول صفقة مقاتلات رافال ضمن مساعي أثينا لزيادة قدراتها العسكرية.
وإذا كانت فرنسا تأتي من خارج منطقة شرق المتوسط، فإن الإمارات تأتي من خارج حوض المتوسط برمته، لتوقع في أيار/مايو الفائت مع أربع دول أخرى على بيان يندد بأنشطة تركيا في شرق المتوسط والتي وصفها بغير القانونية.
لا تكتفي أبو ظبي بمواجهة أنقرة ومناكفتها في مختلف قضايا الإقليم ولا سيما في ليبيا مؤخراً، ولكنها تتجاوز ذلك للإضرار بالأمن القومي التركي وفق أنقرة. فالأخيرة تتهمها بدعم المنظمات الانفصالية في الشمال السوري، وكذلك بلعب دور في المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، وفق ما أظهرته تسريبات البريد الالكتروني لسفيرها في الولايات المتحدة.
التدخل الإماراتي في الأزمة الأخيرة ليس سياسياً فقط، بل حرصت على إرسال طائراتها المقاتلة للمشاركة في مناورات عسكرية مع اليونان مؤخراً في رسالة موجهة لتركيا، بعد أن دأبت على المشاركة في مناورات مشتركة معها ومع “إسرائيل” خلال السنوات القليلة الأخيرة. أكثر من ذلك، فقد رأى كثير من المتابعين أن تركيا هي أحد أهداف الاتفاق الإماراتي – “الإسرائيلي” الأخير، والذي جمع بين خصميَيْن رئيسَيْن لها في المنطقة.
“إسرائيل” بدورها لا تتمتع بعلاقات طيبة مع تركيا، وخصوصاً مع الرئيس اردوغان، وهي أحد أكبر المحرضين الإقليميين عليه، كما أن الاتفاق التركي – الليبي لا يصب في مصلحتها حيث يعقّد كثيراً مشروع Eastmed المشترك مع اليونان وقبرص اليونانية لتصدير الغاز إلى أوروبا.
في المقابل، ورغم أهمية موقفهما لثقلهما في الساحة الدولية وتمتعهما بعلاقات جيدة مع طرفي الأزمة، يبدو أن الخصمَيْن التقليديين واشنطن وموسكو قد اجتمعا على موقف غير منحاز بل وغامض إلى حد ما.
ذلك أنه إضافة لغياب أي موقف واضح لها، فقد شاركت الولايات المتحدة في مناورات عسكرية مع كل من اليونان وتركيا، لإثبات عدم انحيازها لأيّ منهما فيما يبدو. في العادة يُعزى ذلك إلى فترة ما قبل الانتخابات الرئاسية التي يصبح فيها الرئيس “بطة عرجاء”، غير أن جهود ترمب الأخيرة بين الإمارات و”إسرائيل” وكذلك بين كوسوفو وصربيا تدحض هذه الفكرة وترجّح الغموض المقصود.
بيد أن قرار واشنطن رفع الحظر عن تصدير الأسلحة لقبرص الجنوبية قد خدش إلى حد كبير هذه الصورة التي قدمتها الإدارة الأمريكية عن نفسها. صحيح أن القرار بني على “قانون التعاون الأمني والطاقة للشرق الأوسط” الذي أصدره الكونغرس، وأنه مشروط ولا يشمل أسلحة “غير قاتلة أو غير فتاكة” وفق وزير الخارجية بومبيو، وأن الأخير أكد عدم ارتباطه بالتوتر في شرق المتوسط وأن المستهدف منه النفوذ الروسي، إلا أن كل لم يكن كافياً لإقناع أنقرة.
ذلك أن التوقيت لافت جداً ولا يمكن تجاوزه أو التغاضي عنه في قرار كهذا. كما أن قرار الكونغرس المذكور شمل إشارات عديدة لتركيا وتواجدها العسكري في الجزيرة القبرصية، فضلاً عن أن اليونان وقبرص اليونانية فهمتا منه – أو هكذا أظهرتا – دعماً أمريكياً ضمنياً لهما. ولذلك فقد عدَّته أنقرة “خطأ” كبيراً يزيد من “خطر الاشتباك في المنطقة” وفق نائب الرئيس فؤاد أوكتاي، مهددة بـ”اتخاذ إجراءات مماثلة” بشكل يتوافق مع مسؤولياتها “لضمان أمن القبارصة الأتراك في شمال قبرص” كما جاء في بيان وزارة الخارجية.
بالنسبة لموسكو، قد يبدو من مصلحتها استراتيجياً حصول صدام عسكري بين عضوين في حلف الناتو سيعمّق بالتأكيد الخلافات الداخلية فيه ويشغله بنفسه عنها فضلاً عن مكاسبها الكبيرة المحتملة من تأثيرات ذلك على سوق الغاز وأسعاره. إلا أنها التزمت الصمت طويلاً، لا سيما وأنها على علاقة طيبة بالطرفين، قبل أن يخرج عنه وزير خارجيتها سيرغي لافروف ويعلن استعداد بلاده للوساطة بين تركيا وقبرص اليونانية “في حال رغب الطرفان بذلك”.
في المجمل إذن، ثمة دول امتنعت حتى اللحظة عن لعب دور فاعل في تهدئة الأوضاع بين أنقرة وأثينا، بينما كان دور دول أخرى توتيرياً وتصعيدياً. وقد ساهم ذلك في تعنت اليونان إزاء مبادرة الأمين العام لحلف الناتو بعد أن كانت قلبت الطاولة على الوساطة الألمانية بتوقيع الاتفاق مع مصر قبيل الإعلان عن حوار مرتقب مع أنقرة.
واليوم، لا تبدو اليونان في عجلة من أمرها للتجاوب مع دعوات الحوار ومبادرات الوساطة، إذ تراهن على أن قمة الاتحاد الأوروبي نهاية الشهر الحالي قد تأتي بضغوط وعقوبات على تركيا تضعف من موقفها وتدفعها للتراجع، وهو أمر غير مرجح في نهاية المطاف.
لذلك، إذا كانت هذه المواقف مدعاة لتأمل أنقرة ومراجعة علاقاتها وأدائها الدبلوماسي بما يمكن أن يحيّد بعض الأطراف أو يكسبها إلى جانبها، فهي كذلك مدعاة لحذر أثينا بحيث لا تدفعها المواقف الحالية – المدفوعة بمصالح الأطراف الثالثة لا مصلحتها هي – نحو قراءة خاطئة قد تدفع هي ثمنها في حال تدحرجت الأحداث إلى صدام عسكري مع تركيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس