محمود عثمان - الأناضول
تحت شعار "ثقة واستقرار من أجل تركيا"، عقد حزب "العدالة والتنمية" الحاكم مؤتمره العام السابع، مؤخرا، عقب انتهاء مؤتمراته الفرعية في جميع المدن، والتي شهدت تجديد 70 بالمئة من كوادر الحزب في فروعه، وهي نسبة مرتفعة تعكس حالة من المراجعات الفعلية، ورغبة في ضخ دماء جديدة لم تعتريها مشكلة "ترهل المعدن".
ولعل أبرز التعديلات والتوجهات الجديدة هي انتخاب عثمان نوري كاباك تابا رئيسا لفرع الحزب في مدينة إسطنبول، وهو يتمتع بخبرة كبيرة في العمل الحزبي، وكان مقربا من المرحوم نجم الدين أربكان (1926-2011)، رئيس الوزراء الأسبق، ومؤسس حركة "الميللي جوروش".
تكمن أهمية إسطنبول السياسية في أنها بمثابة "تركيا المصغرة". ولذلك تحرص الأحزاب السياسية على كسبها بالدرجة الأولى، فهي أكبر خزان بشري في البلاد، وتعكس الميول والتوجهات السياسية للشارع التركي، بفضل تركيبتها الديمغرافية التي تحوي جميع مكونات المجتمع.
من هنا يأتي حرص رئيس الجمهورية التركي، رئيس "العدالة والتنمية"، رجب طيب أردوغان، على أن يبدأ التغيير من إسطنبول، فهي بمثابة القاطرة التي تجر بقية عربات القطار.
ولذلك وقع الاختيار على كاباك تابا ليكون رئيسا لفرع الحزب في المدينة، كشخصية سياسية واجتماعية مخضرمة لها تاريخ طويل في العمل المدني الطوعي والسياسي.
ويبعث انتخاب كاباك تابا برسالة إلى الشارع الإسلامي المحافظ مفادها أن "العدالة والتنمية"، الذي يحكم منذ 19 عاما، ما زال متمسكا بهويته المحافظة.
وبعد نحو 20 عاما على تأسيسيه، عُقد المؤتمر العام السابع للحزب في مرحلة بالغة الحساسية والأهمية، من حيث وضع حجر الأساس للمرحلة القادمة، التي ستكون آخر حقبة يقود فيها الرئيس أردوغان الحزب.
وكذلك من حيث تهيئة القيادات التي ستؤتمن على قيادة الحزب مستقبلا، بحيث تكون ذات ولاء تام للقائد المؤسس، وأمينة على تراث الحزب وهويته المحافظة.
في أواخر مارس/ آذار الماضي، انطلقت أعمال المؤتمر العام السابع لـ"العدالة والتنمية" في العاصمة أنقرة، بحضور الكوادر الحزبية وضيوف من 11 حزبا سياسيا، وألقى الرئيس أردوغان كلمة موسعة حول خارطة طريق الحزب نحو الانتخابات العامة في 2023.
وخلال المؤتمر، أدلى ألف و560 مندوبا بأصواتهم لاختيار رئيس للحزب، وتم تجديد الثقة بالرئيس أردوغان بالإجماع.
كما جرى انتخاب رئيس الوزراء السابق، بن علي يلدريم، ونعمان قورتولموش، نائبين لرئيس الحزب، وزيادة عدد أعضاء اللجنة القيادية العليا من 50 إلى 75، وتشير النتائج إلى تغيير كبير في هيكلية القيادة، وهو انعكاس للتجديد في انتخابات فروع الحزب.
**أبرز رسائل أردوغان
خلافا للمعتاد، خلا خطاب الرئيس أردوغان من أي نقد حاد للمعارضة، وذهب إلى تعداد وشرح الإنجازات الكبيرة والكثيرة للحزب خلال فترة حكمه، ووجه التحية والشكر لجميع المدن وتشكيلاتها الحزبية.
وركز خطابه على المستقبل من خلال النقاط التالية:
ضرورة كتابة دستور جديد يناسب تركيا الحديثة. إذ يعتبر الدستور الحالي دستور انقلاب، كُتب في ظروف استثنائية من وصاية العسكر على المؤسسة السياسية في الثمانينات. ورغم جميع التعديلات التي أجريت عليه، إلا أنه بقي يحمل روح الانقلاب والوصاية، مما لا يليق بتركيا الجديدة.
الحفاظ على الأسرة. لم يتناول أردوغان اتفاقية إسطنبول بشكل مباشر. لكن خطابه تضمن إجابات على جميع نقاط الاستفهام حول دوافع انسحاب تركيا من الاتفاقية، مشددا على مكانة الأسرة وأهميتها في الحفاظ على تركيا شابة قوية.
قطاع الصحة. تناول في خطابه النجاح الكبير الذي حققته حكومته في هذا القطاع. فقد صمدت تركيا في وجه جائحة "كورونا"، بفضل إدارة ناجحة للأزمة، شهدت لها منظمة الصحة العالمية.
فشل المنظمات الدولية. أشار أردوغان إلى فشل هذه المنظمات، وعلى رأسها الأمم المتحدة، وعجزها وإخفاقها في إدارة الأزمات الدولية؛ بسبب خدمتها لأهداف ومصالح الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، الصين وروسيا). ودعا كعادته إلى إصلاح هذه المنظمة، لتؤدي واجبها الأساسي وهو إرساء الأمن والاستقرار في جميع أنحاء الكرة الأرضية.
الوحدة الوطنية. أكد أردوغان على أهمية الوحدة الوطنية في الداخل، وضرورة ترك الخلافات جانبا في القضايا الكبرى التي تمس الأمن الاستراتيجي لتركيا ومصالحها العليا.
وعرض الإنجازات والمشاريع الكثيرة التي قام بها حزبه خلال حكمه، وأعلن عن مشاريع سيعمل عليها الحزب في الفترة المقبلة.
خارجيا، ذكر أردوغان أن تركيا ستواصل صياغة علاقاتها مع جميع الدول، بدءا من الولايات المتحدة وحتى روسيا والاتحاد الأوروبي والعالم العربي.
إجمالا، عكس خطاب أردوغان رؤية الحكومة التركية حتى العام 2023، حيث شرح بشكل موسع جميع المسائل المتعلقة بالسياسات الاقتصادية والحزم التي تم الإعلان عنها مؤخرا، والسياسة الخارجية، والحاجة لدستور جديد يليق بتركيا الحديثة.
** حزب ديمقراطي محافظ
بزعامة أردوغان، وفي 14 أغسطس/آب 2001، تأسس "العدالة والتنمية" كحزب ديمقراطي محافظ، ولعب دورا أساسيا في الحياة السياسية التركية، حيث نجح في البقاء بالحكم منذ تأسيسه، ولا يزال يتمتع بصدارة المشهد السياسي من دون منازع.
وفي 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2002، وبعد 15 شهرا فقط على تأسيسه، خاض الحزب أول معركة انتخابات عامة، وفاز بها وشكل بمفرده الحكومة رقم 58 في تاريخ الجمهورية التركية.
كما نجح الحزب، بقيادة أردوغان، في انتخابات 2007 بنسبة 46.6 بالمئة، وحصل على مقاعد برلمانية عن جميع الولايات، باستثناء تونجلي.
وفي انتخابات 2011، حصد الحزب 49.53 بالمئة من الأصوات، واستمر على رأس السلطة.
وشهد أغسطس/آب 2014 إجراء أول انتخابات رئاسية في تركيا صوّت فيها الشعب مباشرة، وفاز فيها أردوغان بأكثر من 52 بالمئة من الأصوات، ليصبح الرئيس الثاني عشر لتركيا، وخلفه أحمد داود أوغلو في قيادة الحزب والحكومة.
وفي أول انتخابات عامة في عهد رئاسة داود أوغلو للحزب، فاز "العدالة والتنمية" بانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بنسبة 49.49 بالمئة، ليواصل مسيرته في قيادة تركيا.
ومنذ تأسيسه، تمكن الحزب من الحفاظ على مركز الصدارة في المشهد السياسي التركي، عبر سجل حافل بالإنجازات والنجاحات.
وتمكن الحزب من تحقيق ذلك رغم تحديات كان بعضها مصيريا ومهددا لوجوده، إذ تعرض لخطر الحظر القضائي ولانشقاق قيادات بارزة فيه، ولمحاولات انقلابية بطرق شتى، كان آخرها المحاولة الانقلابية العسكرية الفاشلة، عام 2016.
هذا فضلا عن التدخلات والضغوط الخارجية، التي استهدفت -ولا تزال- الليرة التركية، في محاولة لإفشال مسيرة حكم "العدالة والتنمية"، عبر التضييق الاقتصادي والحصار السياسي.
** تغيير كبير في الكوادر
عقب أداء مرتبك لمنظومة الحزب في الانتخابات العامة الأخيرة، عام 2019، ما تسبب في خسارة الانتخابات في المدن الرئيسية الثلاث، إسطنبول وأنقرة وإزمير، تحدث الرئيس أردوغان عن حالة سماها "ترهل المعدن"، قائلا إنها اعترت منظومة الحزب، فأصابته بالخمول والكسل والبعد عن هموم المواطنين ونبض الشارع.
فقد أدى البقاء الطويل في السلطة والانشغال بنعمائها إلى نشوء حالة من الخمول والكسل وعدم المبالاة عند قطاع عريض في منظومة الحزب، تسببت في بعدهم عن نبض الشارع وهموم المواطن.
ولم تستطع منظومة الحزب البطيئة مجاراة وتيرة أداء زعيمه أردوغان السريعة، فأصبح الشارع راضيا عن أردوغان وحكومته، ساخطا على منظومة حزبه، في حالة فريدة تجلت آثارها بشكل واضح في انتخابات بلدية إسطنبول الأخيرة.
فأصبح لزاما على قيادة الحزب اتخاذ حزمة من الإصلاحات الراديكالية، تتناول القضايا التنظيمية والسياسية والاقتصادية، لكي يعود التلاحم بين الحزب والشارع، ويستمر الأداء القوي للحزب بشكل يرضي الناخبين ويلبي تطلعاتهم.
استجابة لتلك الحالة الملحة، جاء التغيير/ التجديد في كوادر الحزب بنسبة فاقت جميع التوقعات، حيث بلغت 70 بالمئة في مدن كثيرة، وهي نسبة مرتفعة لا يستهان بها في المنظومات الحزبية.
والأهم من ذلك هو وصول شخصيات، سماها أردوغان "العمريون"، وهم يبدون آراءهم، ويوجهون انتقاداتهم من دون مخافة أو خجل من أحد، حتى من الرئيس أردوغان نفسه.
** الخلاصة
استطاع "العدالة والتنمية"، في مؤتمره العام السابع، إجراء تغييرات راديكالية على مستوى منظومته الحزبية، وضخ دماء جديدة لديها القدرة على إعادة بناء جسور الثقة بين الحزب وشريحته الشعبية، التي سحب جزء منها تأييده للحزب لسبب أو آخر.
أما آثار هذه التغييرات ومدى نجاعتها، فستظهر حين إعلان نتائج الانتخابات العامة المقبلة في 2023.
وإلى ذلك التاريخ، يتوجب على منظومة الحزب وصل الليل بالنهار، عملا وجدا وجهدا. فإما الاستمرار في النجاح والمحافظة على المكتسبات وإما سيناريوهات مرعبة، تبدأ من إعادة النظام السياسي إلى سابق عهده برلمانيا، ولا تنتهي عند تركيبة برلمانية معقدة تؤدي إلى شلل تام في مؤسسة الحكم بتركيا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!