ترك برس
كانت إسطنبول عبر التاريخ، وجهة لفئات مختلفة من الناس. حيث اختلفت أسباب قدومهم إلى المدينة التاريخية، إلا أن الوجهة كانت توحدهم بالرغم من اختلاف خلفياتهم الدينية والجغرافية والأيديولوجية.
ومنذ فتحها على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، باتت إسطنبول إحدى وجهات السفر الكبرى حول العالم، فهي ملجأ سياسي للبعض، وبوابة للإبداع والازدهار الفني لآخرين.
وفي هذا الإطار، سلّط تقرير لـ "TRT عربي" الضوء على تاريخ إسطنبول في استضافة الأدباء والسياسيين واللاجئين وكبار ممثلي الفن والعلم والفكر.
وبحسب التقرير فإن إسطنبول حالياً تضم قبور ما لا يقل عن 29 من صحابة النبي محمد، رغم إشارة المؤرخين إلى وفاة ما لا يقل عن ألف منهم في المدينة.
ومن بينهم أبو أيوب الأنصاري، الذي توفي أثناء حصار القسطنطينية ودُفن تحت أسوارها عام 674 م. وكان من الصحابة الأوائل، وانضم إلى الحملة الطويلة والشاقة رغم تقدمه في السن.
وقد أُسس أول مسجد في إسطنبول في منطقة قره كوي، وأطلق عليه اسم "جامع العرب". فبعد وفاة أبو أيوب الأنصاري، تمكنت الحملة من السيطرة على منطقة غلاطة، وشيدوا مسجداً في الجوار يبرز شغف الأمويين بالطوب الأحمر، والزخارف العربية الأنيقة، والألواح الخشبية وفنون الخط العربي الدقيقة.
ومنطقة قره كوي نفسها، التي تعني "القرية السوداء" سميت بهذا الاسم نسبة إلى مئات المقاتلين العرب الذين هزمهم المرض. فلم يكونوا معتادين على فصول الشتاء القاسية البعيدة عن صحراء شبه الجزيرة العربية. واضطروا إلى وقف حملتهم لغزو القسطنطينية، وأطلقوا على المنطقة اسم مدينة "قهر"، لكنهم تعهدوا بالعودة.
الإزدهار الحديث
حتى بعدما أصبحت أنقرة عاصمة تركيا عام 1923، استمرت إسطنبول في إلهام الكُتاب والمفكرين. وكما كتب المؤرخ تشارلز كينغ، مثلت إسطنبول لفترة طويلة عدسة يُستكشف من خلالها ماضي تركيا العثماني ومستقبلها الحديث.
ولعقود من الزمان، اختار الكُتاب والفنانون والموسيقيون والمفكرون الأجانب الإقامة في إسطنبول، وكانت إقامة العديد منهم في قصر بيرا الشهير الذي تحول إلى فندق في منطقة بك أوغلي القديمة في إسطنبول. وقد اشترى قصر بيرا الشهير رجل الأعمال اللبناني المسلم مصباح موهاياج من الإمبراطورية العثمانية عام 1927. ومثلت شخصيته الجذابة، الشهيرة بربطة عنق الفراشة ومنديل الجيب المطوي بعناية، نوعاً جديداً من سكان إسطنبول.
والفندق، المعلم الذي جمع بين المثقفين والمفكرين منذ عام 1892، كان يقدم خدماته لزائريه من قطار الشرق السريع، الذي يسافر من باريس عبر ميونيخ وبودابست وبلغراد وينتهي به المطاف في القسطنطينية.
لكن قطار الشرق السريع كان خطاً من خطي سكك حديد رئيسيين جعلا من إسطنبول مدينة نابضة بالحياة تمتد عبر عالمين. وكان الخط الثاني، قطار الحجاز الشهير، يربط إسطنبول بمدينة دمشق السورية، ويمتد إلى المدينة المنورة.
العصور الماضية
لم تنفك إسطنبول على مر التاريخ ترحب باللاجئين والمهاجرين إلى أن يندمجوا ويقدموا إسهاماتهم للمدينة ذات الألف عام التي تنصهر فيها الثقافات بطريقة تمنحها روحها الفريدة.
ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، أخذ اللاجئون يتدفقون إلى شوارعها. وتحدث تشارلز كينغ عن الضباط الفرنسيين والبريطانيين في الزي الرسمي الذين كانوا يترددون على الفنادق والمقاهي التقليدية وسط حشود من المهاجرين. وانضم إليهم الروس الهاربون من الثورة البلشفية التي قادها فلاديمير لينين.
وتحدث المؤرخون عن المحفات الشهيرة التي تنقل الزوار من القطارات إلى الفنادق وسط صخب الحياة اليومية.
وهيمنت ثقافة جديدة على المدينة وأصبح "ممر الزهور" في شارع الاستقلال الشهير في إسطنبول مقر أول دار أوبرا في المدينة عام 1831، بناها ميشال نعوم، وهو مسيحي من حلب، لاستقدام الفنانين المشاهير مثل الفنان الإيطالي جيوفاني بارتولوميو بوسكو، الذي بنى مسرحاً بالجوار عام 1839.
وقد احتفى أعيان المدينة ومحبو الفن والثقافة بدار الأوبرا في إسطنبول، وزارها ملوك النمسا وبريطانيا. ويصف أحد الكُتّاب كيف كان السلطان العثماني عبد المجيد يزورها في رحلة طويلة على ظهر الخيل قادماً من قصره الكبير طولما باغجة الواقع على طول مضيق البوسفور. وكانت معظم عروض الأوبرا الإيطالية تُقام في إسطنبول قبل مدن أوروبية أخرى، وفقاً لسوميرا تيلتيك، مؤلفة كتاب "A Pera Tale".
وتسرد سوميرا أيضاً تفاصيل مذهلة عن كيف أصبح الشارع الثقافي يُعرف باسم ممر "جيجيك"، وهي كلمة تركية تعني الزهور. إذ كانت الفتيات الروسيات الشابات، بعد فرارهن من روسيا بعد الثورة، يكسبن عيشهن من بيع الزهور في هذا الممر. ومن التفسيرات الأخرى لإطلاق هذا الاسم على الشارع أن إحدى شركات الزهور الكبرى أقامت متجراً في المنطقة، التي سرعان ما أصبحت تشتهر بباقات الزهور الجميلة وحفلات الأوبرا.
نقطة جذب للمشاهير
رحبت المنطقة الفريدة بالعديد من الزوار المشهورين بما في ذلك الإمبراطور النمساوي فرانز جوزيف، والملكة إليزابيث الثانية، والملك إدوارد السابع، وونستون تشرشل، وجاكلين كينيدي.
ويتردد أيضاً الكتاب والممثلون المشهورون على المنطقة، بما في ذلك أجاثا كريستي، المشهورة برواياتها الغامضة عن جرائم القتل، التي في أثناء إقامتها في إسطنبول، كانت تكتب رواية الجريمة التي نالت استحساناً كبيراً Murder on the Orient Express.
كذلك إرنست همنغواي، أحد أبرز كتاب الإنجليزية المعاصرة، المعروف بكتب مثل The Old Man and the Sea و Farewell to Arms، قضى وقتاً طويلاً في إسطنبول خلال عشرينيات القرن الماضي. ويقول المؤرخون إنه كان رمزاً للإبداع، لكنه كان مألوفاً للمقيمين في المدينة الذين يترددون على المنطقة، وقد طور أحد الشخصيات الرئيسية في كتابه Snows of Kilimanjaro في حانة في بيوغلو.
لعقود من الزمان، رحبت المدينة بكل من الأغنياء والفقراء، أولئك الذين يفرون من الماضي والذين يتوقون إلى المستقبل.
في عام 1961، جاء الكاتب الأمريكي الشهير جيمس بالدوين إلى إسطنبول، وكان يخطط في البداية لمواصلة طريقه نحو إفريقيا قبل أن يغويه سحر المدينة. لقد أصبحت إسطنبول موطناً له بعيداً عن وطنه الأصلي طوال معظم أوقات الستينيات، حيث كتب روايته الأكثر مبيعاً Another Country بالإضافة إلى كتابين آخرين على الأقل ومسرحية أثناء إقامته.
وقد قال بالدوين ذات مرة: "أجد أن العمل هنا أسهل من العمل في أي مكان آخر. لقد تُركت وشأني هنا".
وجد بالدوين كرم الضيافة في المدينة، وتمتع بحالة من الارتياح الشديد من التوترات العرقية المتزايدة التي ابتليت بها الولايات المتحدة في ذلك الوقت.
قال بالدوين ذات مرة لصديقه الكاتب التركي ياسر كمال: "أشعر بالحرية في تركيا".
كانت إسطنبول ملاذاً للنخبة الثقافية في الغرب، وكانت أيضاً موطناً لوجهاء ومفكرين من الشرق. فقد قضى جمال الدين الأفغاني، أبو التحديث السياسي الإسلامي، سنواته الأخيرة في إسطنبول، قبل أن يُدفن في قبر بلا شاهد في منطقة شيشلي. ومن شأن أعماله أن تلهم الأجيال في النضال ضد الاستعمار قبل أن تؤدي إلى ظهور الإخوان المسلمين حديثاً. وقد أُخرجت رفاته في وقت لاحق ونُقلت إلى أفغانستان.
في ذلك الوقت، احتفظ النبلاء العرب، المرتبطون ارتباطاً وثيقاً بالإمبراطورية العثمانية، بمنازلهم في المدينة، واختاروا في كثير من الأحيان تربية أطفالهم هناك للاستفادة من التعليم واكتساب الخبرات والفرص.
وكان من بينهم الحسين بن علي شريف مكة، الذي ولد في المدينة وزارها بشكل متكرر. وهو الذي قاد الثورة العربية ضد الإمبراطورية العثمانية بعد ذلك، بمساعدة الضابط البريطاني توماس إدوارد لورانس.
وقد ولدت الأميرة السعودية عفت محمد الثنيان في إسطنبول لأم تركية وأب عربي، وقضت سنوات تكوينها هناك، قبل أن تلتحق بديوان المملكة زوجةً للملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
وهي لا تزال محبوبة من السعوديين حتى يومنا هذا، باعتبارها كانت مخلصة للأعمال الخيرية. وأولئك الذين عرفوها يتحدثون عن الأناقة الممتزجة بالثقافة التي جلبتها إلى البلاط الملكي بعد عودتها إلى المملكة.
مدينة خالدة
من الشخصيات البارزة الأخرى ألفونس دي لامارتين، الشاعر الفرنسي، الذي كان مفتونًا جداً بالمدينة أثناء إقامته فيها، وقد كتب ذات مرة: "إذا لم يكن لدى المرء سوى نظرة واحدة ليلقيها على العالم، فينبغي على المرء أن يحدق في إسطنبول".
ويبدو أن الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت يشاركه هذه المشاعر، وهو الذي يُنسب إليه القول: "لو كانت الأرض دولة واحدة، لكانت إسطنبول عاصمة لها".
ومع ذلك، لن يُذكر جميع زوار إسطنبول العابرين باعتزاز.
فقد أمضى ماكس مولر، المستشرق الألماني وأبو الأيديولجية الآرية، مدة طويلة من الوقت في إسطنبول يطور نظرياته اللغوية، فقط ليضع التفسيرات العنصرية التي خضع لها أتباعه بعد ذلك.
المهاجرون الروس
من بين اللاجئين البارزين الآخرين الذين قدموا إلى المدينة التاريخية الروائي فلاديمير نابوكوف، ابن شقيق ليو تولستوي ومؤلف رواية Lolita. وجنباً إلى جنب مع الأرستقراطيين الروس الآخرين الفارين من البلاشفة "الحمر"، أنشأ الروس "البيض" أول مكتب تحرٍّ في المدينة، ناهيك عن أستوديو التصوير الفوتوغرافي والرسم.
ولم يمض وقت طويل قبل أن يعتبر حتى الشيوعيون الحمر المدينةَ وطناً لهم، وكان من أبرزهم ليون تروتسكي الذي فر من روسيا بعد خسارته في صراع مع جوزيف ستالين في عام 1929. وعاش في جزيرة بويوكادا قبالة ساحل إسطنبول، حيث كتب تاريخ الثورة الروسية، قبل أن ينتقل إلى مدينة مكسيكو حيث اغتيل عام 1940.
ومن بين المهاجرين واللاجئين الروس كان هناك الأذربيجانيون والأوكرانيون والجورجيون، الذين وصلوا عن طريق البواخر في البحر الأسود لبدء حياة جديدة في أرض جديدة. وبلغ عدد الوافدين عدداً كبيراً، وزاد عدد سكان إسطنبول المتواضع البالغ مليون شخص بمقدار الخمس على الأقل، ووصل آخرون إلى موانئ مختلفة في جميع أنحاء تركيا.
لم يعد الكثيرون منهم إلى روسيا. فقد انتقل الأثرياء إلى باريس ولندن ونيويورك في النهاية. أما الغالبية التي لم تكن قادرة على تحمل تكلفة التحركات فبقيت في إسطنبول.
وقد وصف السناتور الروسي السابق نيكولاي تشيبيشيف الترحيب الذي وجده الشتات الروسي في مذكراته.
وكتب: "أعتقد أنه يمكن للمرء أن يقول، دون مبالغة، إن الروس لم يشعروا في أي مكان خلال فترة الهجرة، حتى في البلدان السلافية التي رحبت بنا، بأنهم في وطنهم أكثر من القسطنطينية".
مع وصولهم، لم يستغرق الأمر سوى سنوات قليلة قبل ظهور المطاعم الروسية وبدأت في تقديم شوربة بورش وستروجانوف. وقدم سائقو الألوية المدرعة التابعة للجيش الأبيض القيصري المهزوم حافلات "دولموش" الصغيرة في كل مكان في إسطنبول لأول مرة.
التاريخ الصامت
مع تغير التركيبة السكانية باستمرار، تتباهى إسطنبول بعدد سكان يزيد عن 15.6 مليون نسمة، بالرغم من أن السكان المحليين يزعمون أن الأرقام أعلى بكثير عندما تحتسب السياح العاملين الزائرين من كل جزء من البلاد.
يقول أحد المعارضين العرب في إسطنبول الذي لا يستطيع العودة إلى دياره بعد أن تحدث علناً ضد فساد حكومة بلاده: "لطالما مدت إسطنبول يدها للمبعدين والضعفاء والمعوزين. في الوقت نفسه، لديها جاذبية فريدة للأقوياء والمفكرين والمبدعين. بالنسبة لي، هي مركز العالم الإسلامي”.
بعد الترحيب بمئات الآلاف من اللاجئين من البلدان المجاورة، لم يمض وقت طويل قبل إحياء المناطق العربية التاريخية في المدينة، مع إعادة تقديم الخبز العربي والمأكولات الشهية والأطعمة.
يأتي الكثيرون إلى إسطنبول بحثاً عن المعرفة. ففي عام 2020، كانت تركيا موطناً لأكثر من 185 ألف طالب دولي.
ويأتي آخرون بحثاً عن الأمان، مثل المعارضين والمثقفين، لإيجاد مساحة آمنة لمناقشة مستقبل دولهم.
بالنسبة لمعظم الناس، فإن شوارع إسطنبول الحديثة المزدحمة تجعل من السهل نسيان كيف أنها مدينة مشبعة بالتاريخ، غير مدركين بالشخصيات الملكية والعلماء والأساتذة والفنانين غير المذكورين، الذين وصفوا المدينة بأنها موطنهم، وما زالوا يفعلون ذلك حتى اليوم.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!