د. سمير صالحة - أساس ميديا
طبعاً اللافت هو الحراك السياسي والدبلوماسي من وإلى الخليج، بطابع إقليمي ودولي خلال الأشهر الأخيرة.
بدأت الخطوة الاستباقية الأولى مع قمّة العلا، التي عُقِدت في 5 كانون الثاني المنصرم بدعوة من المملكة العربية السعودية، وعلى جدول أعمالها أهداف متعدّدة تتقدّمها المصالحة الخليجية مع قطر التي تمّت بعد استعدادات ولقاءات سياسية رفيعة مكثّفة بين العديد من العواصم العربية.
الانطلاقة الخليجية المغايرة هذه المرّة كان بين دوافعها أيضاً التوازنات الجديدة في المنطقة والعالم مع استعدادات التغيير داخل إدارة البيت الأبيض، ووضعيّة الاصطفافات الحاصلة في التعامل مع أكثر من ملف اقتصادي أمنيّ استراتيجي على أكثر من خطّ بين الدول والقارّات في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز وشرق المتوسط والشرق الأوسط، وموقع ودور الدائرة الخليجية في كلّ هذا الحراك.
مؤشّرات ورسائل مركزية تابعناها عن قرب في الأشهر الأخيرة، وكان الخليج مركز الثقل فيها شئنا أم أبينا، وهي التالية:
1- جولة خليجية بدأها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى منطقة الخليج في مطلع شهر آذار المنصرم تحت عنوان "ضبط الساعة المفصل" لبحث صفقات وعقود وتفاهمات إقليمية جديدة.
2- زيارات صينية مكثّفة بدأها في شهر أيار الماضي وزير الخارجية الصيني وانغ يي باتجاه العواصم الخليجية المؤثّرة لبحث العلاقات الاقتصادية والتجارية "في ظلّ تعقيدات أميركية إقليمية متوقّعة مع إدارة بايدن".
3- حراك أميركي مكثّف باتجاه الخليج بين شهريْ تموز وأيلول المنصرمين بإشراف وزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن "لتأكيد الالتزمات الدفاعية الأميركية في منطقة الخليج".
4- رافق كلّ ذلك حراك تركي إيراني أوروبي بطابع مكّوكي لتعرف كلّ هذه العواصم وضعيّتها وتحدّد سياساتها وتتّخذ قراراتها بشأن أهمّ الملفّات السياسية والاقتصادية الإقليمية في ضوء إشعال أضواء المطبخ الخليجي لإعداد "منسفه" السياسي وسط لعبة التوازنات والمعادلات الجديدة.
5- زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى قطر.
فما هو الموقف التركي؟
ترحِّب تركيا بعودة العلاقات الخليجية إلى سابق عهدها، وتعلن إيران أنّها تولي أهمية كبيرة لتحسين علاقاتها مع دول جوارها الخليجي، ويتحرّك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للبحث عن فرص استراتيجية جديّة في منطقة الخليج ينتقم بواسطتها من الضربات الأميركية التي تعرّض لها في ملفّات اقتصادية سياسية عديدة. وهي كلّها تحرّكات كانت قمّة المصالحة الخليجية في المملكة العربية السعودية المحرِّك الأوّل لها، ولا يمكن فصلها عن ملامح التحوّلات المحتملة في مواقف وسياسات لاعبين مؤثّرين بدأت تظهر إلى العلن، وقد تكون على حساب الثقل والدور الخليجي والعربي.
آخر الزائرين والمتحدّثين في الخليج كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي أعلن إعادة تموضع في سياسة أنقرة العربية والخليجية، التي واكبتها لقاءات وزيارات علنيّة وسريّة أثمر بعضها وما زال البعض الآخر ينتظر.
زيارة إردوغان الدوحة سبقتها زيارة وليّ عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد أنقرة. ما قاله الرئيس التركي من الدوحة وأمام القوات التركية الموجودة هناك مهمّ طبعاً: "نولي أهميّة كبيرة لأمن واستقرار منطقة الخليج، وضرورة تطوير العلاقات على أساس الاحترام والمصلحة المتبادلة".
وكرّر الرئيس التركي في الآونة الأخيرة الحديث عن أهميّة الانفتاح التركي الخليجي وعودة العلاقات إلى سابق عهدها. هي عودة تركيّة إلى اللغة التي كانت سائدة قبل 4 سنوات في الحوار مع دول الخليج، لكنّ الحماسة ليست في ذروتها بعد سقوط جرّة العلاقات بين تركيا والعديد من العواصم الخليجية أرضاً، وصعوبة ترميمها والعودة إلى معادلة تركيا التي كانت تقول إنّ أمن الخليج هو حلقة من أمنها الإقليمي في رسالة تعني إيران قبل غيرها. فالعواصم الخليجية تحاور طهران مباشرة اليوم وتقول ما تريده من دون وسطاء أو شركاء حتى لو تباعدت المقارنة والمواقف بين النظرة إلى إيران وتركيا خليجياً.
ما هو موقف الخليج؟
الخليج العربي اليوم يتابع لعبة الكرّ والفرّ الإقليمي، ويتعامل معها بشكل منظّم ومبرمج ومدروس كما يبدو. هناك مؤشّرات كثيرة حول تقاسم الأدوار نتيجة الأجواء الإقليمية المواكبة لكلّ هذا الحراك الذي تتحوّل منطقة الخليج إلى مركز الثقل فيه: الرياض تقود بالتنسيق مع عمان والكويت عملية التعامل مع الملفّ اليمني واللبناني والعراقي والسياسات الغربية في المنطقة، وأبو ظبي تنشط بالتنسيق مع القاهرة على خط ملفّات إيران وسوريا وشرق المتوسط، وقطر تتولّى ملفّات أفغانستان وروسيا والقوقاز. ثمّ تتمّ مراجعة نتائج التحرّكات والاتصالات ووضع خارطة الطريق الجديدة في ضوء ما تمّ التوصّل إليه.
نجح الخليج حتى الآن، كما هو المشهد اليوم، في ضبط الإيقاع بين اللاعبين المؤثّرين في المنطقة، مثل أميركا وروسيا والصين، وحماية مصالحه الإقليمية عبر سياسات متوازنة في التعامل مع هذه القوى. يتموضع الخليج اليوم فوق لعبة التوازنات الإقليمية المرتبطة بالعلاقات والمصالح التركية الإيرانية في مناطق نفوذه، بعدما كان حتى الأمس القريب يعاني من التقارب والتباعد التركي والإيراني وارتدادات ذلك عليه.
قال وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في مطلع كانون الثاني المنصرم، بعد انطلاق المصالحة الخليجية الخليجية: "الخلافات بين تركيا وبعض دول مجلس التعاون الخليجي قد تكون لأسباب ثنائية ولا تعني دولة قطر بشكل مباشر. اليوم هناك علاقات قطرية خليجية تتقدّم بشكل إيجابي سريع".
فهل من علاقة بين ما قاله وزير الخارجية القطري بالأمس وبين المشهد الخليجي الإقليمي القائم اليوم؟
الأجواء الإقليمية المحيطة بزيارة إردوغان الدوحة لها أهميّتها وتأثيرها حتماً على رسم خارطة العلاقات التركية القطرية في المرحلة المقبلة. هناك مصالحة خليجية ولقاءات وقمم تُعقد بشكل مكثّف، وهناك حراك خليجي يهدف إلى رسم خارطة مسار التعاون بين دول الخليج في إطار بناء هيكلية تنسيق وتعاون بحلّة جديدة، والسعودية تقود هذا الملفّ منذ فترة لإيصاله إلى مستوى أعلى بقوّة دفع سياسي واقتصادي وعسكري قريب يصبّ في مصلحة تأطير مؤسسة مجلس التعاون الخليجي وتفعيل دوره الإقليمي.
تنافس تركي إيراني
سيكون هناك قريباً تنافس تركي إيراني على كسب العواصم الخليجية بسبب حاجة البلدين إلى التنسيق مع هذه الدائرة الاستراتيجية الفاعلة في المنطقة. فكيف ستُرسم خارطة العلاقات والتحالفات بهذا الخصوص؟ ومَن سيختار مَن؟ كيف ولماذا؟ هناك شروط ومطالب سعودية وإماراتية ما زالت قائمة قبل التطبيع مع أنقرة وطهران؟ ومَن سيتفاعل ويتعاون أوّلاً؟
باتت خيارات أنقرة أكثر وضوحاً اليوم: إنهاء خلافاتها العميقة مع الكثير من العواصم العربية، وتحديداً الخليجية، وعدم التراجع عن مواقفها التي أدّت إلى توتير علاقاتها بواشنطن، وتمسّكها بما أنجزته في ضوء التقارب والتعاون مع موسكو الشريك الاستراتيجي الجديد، وترك علاقاتها مع أوروبا مجمّدة على ما هي عليه بانتظار التحوّلات في ملفّات إقليمية تعطيها قوّة دفع في حوارها الجديد مع العواصم الأوروبية.
هذا إلى جانب مغازلة تل أبيب وتوجيه رسائل التطبيع مجدّداً لتثبيت توازناتها الإقليمية. لكنّ الشقّ الخليجي في التعامل مع الطروحات والمتغيّرات في سياسات تركيا الإقليمية مهمّ أيضاً، ولا نعرف بعد كيف سيكون.
جولة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان الخليجية التي ترافقت مع تحرّك تركي إيراني باتجاه المنطقة، والبيان الختامي لقمّة دول مجلس التعاون الخليجي التي تحتضنها الرياض منتصف الشهر الحالي، ستعطينا الكثير من الإجابات على مثل هذه التساؤلات وغيرها ممّا يدور حول كيفية تحرّك الكتلة الخليجية وكيفية تحديد أولويّاتها وخياراتها في المرحلة المقبلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس