الأميرال جهاد يايجي - الجزيرة مباشر
تقع تركيا في وسط أكثر مناطق العالم اضطرابًا، إذ يحيطها شرق البحر الأبيض المتوسط ولبنان وسوريا والعراق من ناحية، والبحر الأسود والقوقاز والبلقان من ناحية أخرى. كما أنها معنيّة بالتوترات بين إسرائيل وإيران، والتطورات في أفغانستان، التي لا تُعد بعيدة عنها.
وإن جاز التعبير، فتركيا تقع على صفيح من نار. وتحمل الجهات الفاعلة والقوى المهيمنة من خارج المنطقة، بالإضافة إلى الجهات الفاعلة الإقليمية، الحطب يومًا بعد يوم إلى هذه النار. إن ضمان الأمن في المنطقة يُعد تحديًا كبيرًا تواجهه شعوب هذه المنطقة وحكوماتها على حدٍ سواء. إذ يجب على الحكومات أن تبذل جهودًا كبيرة من أجل ضمان بقائها. ومن الضروري أيضًا أن يكون لدى الدول الموجودة في هذه المنطقة -الأكثر سخونة في العالم- قوات مسلحة قوية لحماية وجودها، لضمان بقائها في مواجهة كل التوترات والصراعات المستمرة. لذلك، يتوجب على تركيا -بر الأمان القابع في منتصف هذه الجغرافيا- أن تمتلك قوات مسلحة قوية.
حيث تمكنت تركيا أن تصبح بر الأمان والاستقرار والسلام بفضل أسس الدولة الثابتة والقوات المسلحة القوية. ومن واقع هذه المنطقة أيضًا أنها كانت ساحة صراع للقوى العظمى عبر التاريخ، ويرجع ذلك إلى الأهمية الجيوسياسية والجيوستراتيجية والجغرافية الاقتصادية لها، ومن الطبيعي أن تكون الدول المستقرة غير مرغوب فيها هنا. ومن الطبيعي أن تكون تركيا، الدولة الديمقراطية المستقرة، هدفًا للقوى التي تسعى للوصول إلى موارد المنطقة والسيطرة عليها.
فكلما أرادت تركيا حماية أو تعزيز حقوقها ومصالحها، أو بدأت في تطوير صناعاتها وقدراتها، فرضت القوى الكبرى عقوبات عليها. وأول مثال على ذلك ما تبع مجريات عملية السلام القبرصية عام 1974، حيث فرضت الولايات المتحدة حظر بيع المعدات العسكرية إلى تركيا لمدة عام حينها، كما تبعه عقوبات مختلفة من الاتحاد الأوربي. وفي عام 2019 عادت واشنطن إلى إثارة موضوع العقوبات تلك عبر قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات.
ولحظر الأسلحة الذي فرضته الولايات المتحدة، وبدأ في 5 فبراير/شباط 1975، أسبابٌ أخرى، مثل رفع الحظر المفروض على زراعة الخشخاش في البلاد. لكن عملية السلام التي أطلقتها تركيا في جزيرة قبرص لحماية حقوقها وسلطاتها بموجب القانون الدولي، ولإيقاف الإبادة الجماعية للأتراك من قِبل اليونانيين، واستخدام الأسلحة الأمريكية في هذه العملية هو السبب الرئيسي. في تلك السنوات، كانت صناعة الدفاع التركية لا تقارن مع ما هي عليه الآن، بل يمكن أن نقول إنها عديمة تقريبًا. وردًّا على قرار الحظر، أعلنت تركيا تأسيس دولة قبرص الاتحادية التركية في 13 فبراير/شباط 1975. وفي 25 يوليو/تموز 1975، تم إلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة المُوقّعة في 1969، من خلال مذكرة أرسلتها أنقرة إلى واشنطن. وبالإضافة إلى ذلك، وُضعت جميع القواعد والمنشآت الأمريكية في تركيا تحت سيطرة وإشراف القوات المسلحة التركية.
وهذه الخطوة الأخيرة كانت أهم دافع أدى إلى رفع الحظر، لأنه لم يكن من مصلحة الولايات المتحدة أن تكون قواعدها في تركيا -الواقعة في نقطة حساسة- تحت التهديد، وخاصة في ظل تسارع مجريات الحرب الباردة، وهذا ما اضطر الولايات المتحدة إلى رفع الحظر. فحينها بدأت تركيا العمل على برنامجها التكنولوجي المحلي والوطني، أي مع الحظر الأمريكي عام 1975 بالتحديد، فبدأ الحديث عن سياسة “اصنع سفينتك وطائرتك بنفسك” حينها.
ظهرت أشكال الحظر أو القيود المختلفة -سواء أكانت ضمنية أم صريحة- إلى الواجهة خلال تموجات وتذبذبات العلاقات الأمريكية التركية على مر السنين. ووصلت الأمور إلى حد هدد فيه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب الاقتصاد التركي عبر تغريدة على تويتر، كما ظلت الوفود الأمريكية العسكرية والتجارية تثير موضوع القيود والعقوبات من تحت الطاولة خلال الاجتماعات بين البلدين. وأخيرًا، أدى اقتناء تركيا نظام الدفاع الجوي (S-400) من روسيا إلى التنفيذ المباشر للعقوبات المفروضة على تركيا بموجب قانون مكافحة أعداء أمريكا من خلال عقوبات “كاتسا”.
والغريب أن العقوبات المعلنة تستهدف قطاع الدفاع، وليس المؤسسات المالية التركية. وبالإضافة إلى العديد من العقوبات، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية استبعاد تركيا من برنامج المقاتلات (F-35)، في حين كانت شريكًا مُصنّعًا فيه، كما صرّحت أن تركيا لن تحصل على المقاتلات التي وعدت بها.
وبعد معضلة الإرهاب التي واجهتها تركيا منذ ثمانينيات القرن الماضي، تتخذ خطوات جادة لإنقاذ صناعاتها الدفاعية من الاعتماد على الخارج، وخاصة بسبب حالة عدم الاستقرار المتزايد في الشرق الأوسط منذ الربيع العربي. وبما أن تركيا ستستمر في بذل جهدها لإنشاء صناعات دفاع محلية ووطنية، فليس من الصعب التنبؤ باستمرار الحظر والقيود عليها في المرحلة المقبلة. وفي ظل ذلك، بات من الواضح وجوب أن تستمد تركيا قوتها من صناعاتها الدفاعية.
في الواقع، تشهد تركيا تحركًا في قطاع التكنولوجيا المحلية والوطنية منذ عهد أتاتورك، لكنها ضعفت مع مرور الزمن، وعاد نشاطها بعد الحظر الأمريكي عام 1975، وتسارعت مع مشروع السفينة الوطنية الذي بدأ في أوائل التسعينيات، إلى أن بدأ تنفيذ هذه الرؤية بقوة بعد أن آتت أكلها مع بداية الألفية الثانية. وقد هدفت تركيا إلى تقليل اعتمادها على واردات الدفاعية الخارجية من خلال تنفيذ برنامجها المحلي، وقد نجحت بالفعل.
فمثلًا، كان معدل سفن النقل أو الشحن المحلية بالقطاع الخاص يتراوح من 5% إلى 15% في عام 2006، أما الآن فقد بلغ نحو 72% بعد الانتهاء من تصنيع النسخة الرابعة من سفينة (MİLGEM) المحلية.
كما شهدت صناعات الدفاع التركية تطورًا ونموًّا كبيرًا بحلول عام 2020، بعد إثراء مخزون القوات الجوية والبحرية والبرية بأسلحة وطنية تسهم في زيادة القدرات الدفاعية للجيش. كما أصبح العديد من الشركات التركية التي تنشط في الصناعات الدفاعية من بين أكبر 100 شركة في العالم، ووسّعت وجهات تصديرها إلى العديد من دول العالم، حيث دخلت 7 شركات تركية قائمة المنافسة العالمية عالية الجودة في مجال الصناعات الدفاعية. وشغلت أكبر شركة دفاع في تركيا (ASELSAN) المرتبة 52 بين أفضل الشركات في العالم، وبلغت قيمة مبيعاتها مليارين و100 مليون دولار. كما حلّت شركة (TUSAŞ) المعروفة أيضًا باسم مؤسسة صناعات الطيران التركية (TAI) بالمرتبة 48، في حين تسابقت شركات (BMC وRoketsan وSTM وFNSS وHAVELSAN) لتكون من بين أكبر 100 شركة في القائمة نفسها.
ويعتمد نجاح هذه الشركات على خبراتها بمجالها وتطويرها في تكنولوجيا التصوير البصري والإلكتروني من خلال البحث العلمي. ووفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام (سيبري) فإن تركيا تشغل حاليًّا المرتبة 14 بين كبرى الدول المصدّرة للأسلحة الدفاعية، ويمثل ذلك 1% من إجمالي الصادرات العالمية.
إن تركيا تمتلك التكنولوجيا اللازمة لإنتاج وبيع الأسلحة الهجومية والدفاعية التي تفي بمعايير حلف شمال الأطلسي، وبشكل أرخص من منافسيها الدوليين. وقد زادت صادرات تركيا من الأسلحة بشكل ملحوظ بين عامَي 2013 و2019، بما في ذلك المركبات المدرعة والسفن والبوارج البحرية، ومن المتوقع أن تستمر بالازدياد في السنوات المقبلة، حيث ارتفعت صادرات قطاع الدفاع التركي بنسبة 34.6% في عام 2019 مقارنة بعام 2018.
كما صدّرت تركيا منتجاتها العسكرية إلى 164 دولة عام 2019. واستقبلت الولايات المتحدة الحصة الأكبر من صادرات صناعات الدفاع التركية، وتبعها الاتحاد الأوربي ودول الشرق الأوسط.
وفي النتيجة، لقد عززت تركيا صناعاتها الدفاعية بفضل الحظر الذي لن يعود بالتأثير عليها سلبًا بعد الآن، إذ أصبحت إحدى الدول الأولى المنتجة للصناعات الدفاعية. كما وصلت تركيا إلى مستوى معرقل للمخططات عالميًّا، ومحددًا لقواعد اللعبة إقليميًّا.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس