ترك برس
لا تزال المدرسة الرشدية تقف اليوم شامخة، وسط العاصمة العراقية بغداد، بالرغم من مرور أكثر من قرنين على إنشائها من قبل العثمانيين.
المبنى الواقع على شاطئ دجلة من جانب الرصافة، يستخدم حالياً باسم "المركز الثقافي البغدادي".
ويعود تاريخ إنشاء المدرسة إلى النصف الثاني من القرن 19، حين قررت السلطات العثمانية وقتها إنشاء سلسلة من "المدارس الحديثة" في مختلف الولايات، بعد أن كان الأطفال يتلقون تعليمهم في الكتاتيب.
واستخدم المبنى لعدة أغراض خلال العقود السابقة، حيث تحول إلى مستشفى أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم أصبح مقرا للمحاكم المدنية والجزائية، ثم معهدا دينيا في تسعينيات القرن المنصرم، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت."
مركز ثقافي
وبعد إغلاق المبنى عقب الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، أعيد ترميمه وافتتاحه عام 2011 ليكون مركزا ثقافيا يفتح أبوابه للجمهور، وتقام فيه فعاليات وأنشطة ثقافية مختلفة كل أسبوع.
وحين تجتاز بوابته الخشبية يستقبلك ممر قصير، ثم باحة واسعة تجد في زاوية منها شبابا يعرضون لوحات لهم، وفي زاوية أخرى فتيات يُقمن سوقا خيريا، وربما احتضنت هذه المساحة مهرجانا شعريا أو عرضا مسرحيا.
أما قاعات المبنى -التي تحمل أسماء شعراء وفنانين ومفكرين عراقيين- فهي على موعد أسبوعي مع محاضرات وندوات ثقافية، يداوم كثير من البغداديين على حضورها بشكل مستمر.
ومنذ افتتاح البناية مجددا قبل نحو عقد من الزمان، فإنها تحولت إلى متنفس لكثير من المبدعين الشباب الذين يبحثون عن نوافذ يطلون من خلالها على الجمهور، وهو ما تقوله زهراء حبيب التي تشارك في سوق خيري يعود ريعه للفقراء.
أما فهد علي فقد اعتاد على عرض لوحاته للمهتمين بالفن التشكيلي في باحة المدرسة، هو وعدد من زملائه الذين لم يجدوا مكانا يعرضون فيه إنتاجهم الفني، فباتوا يحضرون بين فترة وأخرى للمشاركة.
مدرسة عباسية
وتشير مصادر تاريخية إلى أن بناية المدرسة الرشدية الحالية كانت في الأصل مدرسة بنيت في نهايات العصر العباسي، وعرفت باسم "مدرسة الأمير سعادة" خادم الخليفة المستظهر بالله، ثم شُغل المبنى لأغراض عدة، وتحوّل إلى دائرة "الدفترخانة"، المعنية بحفظ الوثائق والسجلات العقارية وبعض الأمور المالية في زمن المماليك، الذين حكموا العراق بين عامي 1749 و1831.
ثم قرر الوالي مدحت باشا عام 1870 استخدامها مدرسة عسكرية حديثة، تستقبل عددًا من أبناء بغداد لتؤهلهم للدراسة لاحقا في الكلية العسكرية بإسطنبول، وافتتحت في عهد الوالي عبد الرحمن باشا عام 1879.
وتبلغ مساحة البناية نحو 6 آلاف متر، وتتكون من طابقين تتوسطهما باحة كبيرة، وتحوي 25 غرفة متباينة المساحة، تحولت معظمها إلى قاعات تستقبل أنشطة ثقافية كل أسبوع، أو معارض للتحف والقطع التراثية.
ووفقا للباحث التراثي ياسر العبيدي، فإن التعليم في المدرسة كان يستغرق 4 سنوات، ويتضمن عددا من المواد، بينها العلوم الدينية والقواعد التركية والعربية والحساب والرسم والتاريخ العام والتاريخ العثماني والجغرافيا، وغير ذلك.
ويضيف العبيدي للجزيرة نت أن المدرسة لعبت دورا كبيرا في تأسيس نواة المؤسسة العسكرية العراقية الحديثة لاحقا، حيث تخرج فيها العديد من الضباط الذين خدموا في الجيش العثماني، ثم أسسوا الجيش العراقي لاحقا عام 1921.
ومن أبرز من تخرجوا فيها جعفر العسكري، الذي يلقب بـ"أبو الجيش العراقي"، وآخرون شغلوا مناصب مهمة في المؤسسات المدنية والعسكرية للدولة الوليدة. وكان مديروها وجميع المعلمين والموظفين الذين يعملون فيها من الضباط، باستثناء معلمي الدين واللغات.
ويقترح العبيدي استثمار بنايات تاريخية وتراثية أخرى في بغداد لأغراض سياحية، كالقصر العباسي والمدرسة المستنصرية والباب الوسطاني وغيرها، على غرار تجارب دول أخرى مجاورة.
وجهة ثقافية
ومنذ إعادة افتتاحها، تحولت المدرسة الرشدية أو المركز الثقافي البغدادي إلى وجهة أسبوعية لآلاف العراقيين وبعض الوفود الأجنبية التي تزور البلاد.
ويقول مدير المركز طالب عيسى إن مؤسسته تقيم أكثر من ألف فعالية سنوية في المبنى، ويبلغ متوسط عدد زواره الأسبوعي أكثر من 3 آلاف زائر.
ويضيف عيسى للجزيرة نت أن المركز أعيد افتتاحه في أكتوبر/تشرين الأول 2020 بعد إعادة تأهيله وصيانته، وكذلك بعد رفع الحظر الذي تسببت فيه جائحة كورونا، التي أوقفت أغلب الفعاليات الثقافية في العراق.
وتنوعت الأنشطة الثقافية التي احتضنها المركز عام 2021، إذ تضمنت ندوات ومهرجانات ومؤتمرات وأصبوحات أدبية ومعارض فوتوغرافية وتشكيلية وعروضا سينمائية ومسرحية، بمعدل 1600 فعالية.
ويحتضن المركز أيضا مكتبات خاصة لشخصيات عراقية معروفة، مثل عالم الآثار أحمد سوسة، والشاعرة نازك الملائكة، والمؤرخ سالم الآلوسي، والكاتب والمؤرخ عبد الرزاق الهلالي وغيرهم، وتمت حيازة هذه الكتب عبر الإهداء الخاص للمركز، ضمن مشروع "ناقلو التراث" الذي أعلن عنه في سنوات سابقة.
ويؤكد عيسى أن مكتبة المركز تحتوي على آلاف الكتب في مختلف المجالات، وتفتح أبوابها للباحثين وطالبي المعرفة على مدار الأسبوع، ويجري العمل على تصنيفها وفهرستها حاليا.
ولوقوع المدرسة في نهاية شارع المتنبي، وقرب بناية القشلة وسوق الوراقين أو "السراي"، فقد باتت زيارتها جزءا من النشاط الأسبوعي لمن يقصدون تلك الأماكن، وهو ما سهّل على البغداديين جولة سياحية سريعة في قلب المدينة القديمة يوم الجمعة، في بلد مليء بالأبنية التاريخية والتراثية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!