محمود علوش - الجزيرة نت
بعد يوم واحد من بدء روسيا هجوما على أوكرانيا قبل أكثر من شهر، انتقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الغرب، وقال إن حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي لم يتخذا موقفا حازما لردع الهجوم الروسي. في الواقع، مثل هذا النقد للغرب ليس جديدا على أدبيات الخطاب السياسي التركي ويمكن فهمه من منظور المشاكل المتراكمة في العلاقات التركية الغربية. لكنه في الحالة الأوكرانية يبدو متناقضا على نحو مثير مع الموقف المتوازن الذي تسعى تركيا لتبنيه في هذا الصراع، حيث تزداد الصعوبات على أنقرة لترسيخه كلما تعمق الدور الغربي في احتواء روسيا.
تركيا هي عضو في حلف الناتو وتمتلك ثاني أكبر جيش فيه بعد الولايات المتحدة. كما لديها علاقات وثيقة مع كل من موسكو وكييف. علاوة على ذلك، تعد بوابة روسيا إلى البحر المتوسط وكذلك بوابة الغرب إلى البحر الأسود. بهذا المعنى، يكتسب موقفها في هذا الصراع أهمية بالغة لروسيا والغرب على حد سواء. فبقدر ما يزيد موقعها الجغرافي من أهميتها الجيوسياسية لكلا الطرفين، فإنه يتحول إلى مشكلة لها عندما يصعب عليها الحفاظ على عملية التوازن الدقيقة في مصالحها مع الجانبين.
حقيقة أن لتركيا علاقات وثيقة وتعاون عسكري قوي مع أوكرانيا وتُزودها بطائرات مسيرة بدون طيار تجعلها منخرطة في هذا الصراع مثلها مثل الدول الغربية وإن بدرجة أقل. مع ذلك، فهي تسعى للنأي بنفسها عن الانخراط في الجهود الغربية الراهنة لتسليح أوكرانيا. ومؤخرا، رفضت مقترحا أميركيا بتزويد أوكرانيا بمنظومة "إس-400" (S-400) الصاروخية التي اشترتها من روسيا لتجنب الإضرار بعلاقاتها مع موسكو.
كما رفضت المشاركة في العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو، وهو نفس الموقف الذي اتخذته عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في 2014. بالإضافة إلى كل ذلك، تنخرط أنقرة في الوقت الراهن في جهود الوساطة بين موسكو وكييف بهدف إنهاء الحرب وإبرام تسوية سياسية. ويبدو الحرص التركي على نهج التوازن في هذا الصراع مفهوما بالنّظر إلى العلاقات المتشابكة التي تجمع أنقرة وموسكو في مجالات عديدة. من التعاون في المجال الدفاعي والطاقة إلى التفاهمات المُبرمة بينهما لإدارة نفوذهما في شمال سوريا وجنوب القوقاز، فضلا عن كونهما قوتين رئيسيتين في منطقة البحر الأسود.
ولدى أنقرة الكثير من المشاكل مع حلفائها الغربيين. فعلى سبيل المثال، تفرض الولايات المتحدة عقوبات على صناعات الدفاع التركية ردا على شراء تركيا منظومة "إس 400" من روسيا. كما تدعم واشنطن وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني المُصنف إرهابيا لديها. كذلك، ترفض الولايات المتحدة باستمرار طلب تركيا تسليمها المعارض فتح الله غولن المتّهم بالضلوع في محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في 2016. ويُضاف إلى ذلك، الوجود العسكري الأميركي المتزايد في اليونان، والذي أضفى مزيدا من التوتر على علاقات البلدين. وبالنسبة لأوروبا، فإن الوضع لا يبدو أفضل حالا. ولا تزال مفاوضات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي متوقفة بفعل الخلافات بين الجانبين في قضايا عديدة كالمسألة القبرصية. كما لدى أنقرة خلافات مزمنة مع اليونان. ورغم ذلك، تحرص تركيا على الحفاظ على خيط رفيع مع الغرب ولا تزال تُقدّم نفسها كجزء من المنظومة الغربية. وفي الوقت الذي يُمكن فيه فهم الخلافات التركية الغربية من منظور تعارض مصالحهما في بعض القضايا الرئيسية، فإن أحد دوافع تركيا لتمسّكها بهذه العلاقة هي عضويتها في الناتو وروابطها الاقتصادية الكبيرة مع الأوروبيين.
ويُشكّل الصراع الراهن حول أوكرانيا فرصة لتركيا والغرب لإعادة تشكيل علاقاتهما من منظور جديد يُحقق في جانب الأهداف الغربية في تعزيز سياسة الردع مع روسيا ويحفظ في جانب آخر هامشا مقبولا من الحركة أمام تركيا لإدارة علاقاتها مع روسيا. وفي الواقع، فإنه كلما كانت سياسة الردع الغربية قوية بما يكفي للضغط على روسيا من دون تقليص شديد لخيارات تركيا، فإن أنقرة تستطيع فرض شروطها على موسكو بشكل أفضل لإحداث توازن في الشراكة التي تميل لمصلحة روسيا بقدر أكبر. وعلى الرغم من حرص أنقرة على استمرار هذه الشراكة، فإنها تنظر إلى السياسات التوسعية الروسية في المناطق القريبة منها على أنها تهديد لمصالحها ولتوازن القوى في منطقة البحر الأسود. ومن هذا المنظور يُمكن استنتاج أن وحدة الغرب في ردع روسيا مصلحة لتركيا. لكنّ مثل هذه الوحدة تُرتب على أنقرة تبني سياسات أكثر انسجاما مع الغرب والناتو ضد روسيا وهو ما تسعى لتجنّبه بأي وسيلة. وبالقدر الذي ترغب فيه أنقرة بدور غربي أكبر في مساعدة أوكرانيا على مقاومة الهجوم الروسي، فإنها حريصة على إبقاء نفسها متمايزة عن الغرب في هذا الصراع. ويرجع ذلك بصورة رئيسية إلى رغبتها في عدم الانخراط في الحرب وتكريس دورها كوسيط.
وفي تناقض مع الوحدة التي يُبديها الغرب في الوقت الراهن، فإن بعض الخلافات بدأت تبرز بين واشنطن والأوروبيين حول المدى الذي يجب أن يضغطوا فيه في سلاح العقوبات. ورغم أن تركيا تبدو بعيدة عن هذا النقاش، فإنه يدعم شرعية نهجها المتوازن الذي يسعى لإيجاد مسافة بين التزاماتها تجاه الناتو من جهة وبين مصالحها الوطنية الخاصة التي تفرض عليها الحفاظ على علاقة مع روسيا من جهة ثانية. وحتى الآن، لا تزال تركيا قادرة على الموازنة بين في الصراع، لكنّ هامش المناورة لديها يضيق كلّما طال أمد الصراع وتصاعدت حدّة المواجهة بين روسيا والغرب واستخدمت فيها العقوبات على نطاق أوسع. علاوة على ذلك، فإن الضغوط التي تمارسها واشنطن على أنقرة لمواصلة تزويد أوكرانيا بالطائرات المسيرة ينطوي على بعض المخاطر الأساسية بالنسبة لتركيا وعلاقتها بروسيا خصوصا ما إذا تحوّلت الحرب إلى صراع بالوكالة طويل الأمد.
يمكن القول إن إستراتيجية الضغوط الغربية القصوى على روسيا ستخدم مصالح تركيا إذا ما أدّت بالفعل إلى الدفع باتجاه تسريع إنهاء الحرب وإيجاد تسوية سياسية للصراع. لكن المؤشرات على إمكانية حصول ذلك تبدو ضعيفة للغاية بالنظر إلى أن الرئيس فلاديمير بوتين يشعر بانتكاسة عسكرية في أوكرانيا ولا يبدو مستعدا للتراجع قبيل تحقيق إنجاز ما يُمكن تسويقه في الداخل والخارج على أنه دليل على انتصار روسيا التي لم يعد بالإمكان التعامل معها كطرف منهزم بعد الحرب الباردة. كما أن الولايات المتحدة تسعى لاستثمار هذا الصراع من أجل تقديم نفسها كحليف عسكري رئيسي لأوروبا لا يُمكن الاستغناء عنه مهما تصاعدت النزعة الأوروبية نحو الاستقلال الإستراتيجي في السياسة الخارجية عن الولايات المتحدة. وما بين طموحات روسيا ومخاوف الغرب، تجد تركيا نفسها عالقة في مهمة دقيقة ومعقّدة ستُحدد هويتها في عالم جديد يتشكل.
في منتدى الدوحة الذي عُقد السبت والأحد الماضيين، سعى إبراهيم قالن الناطق باسم الرئاسة التركية إلى تبرير موقف بلاده المتوازن في الصراع بالحاجة إلى التحدث مع روسيا من أجل دفع عملية السلام. وبالنظر إلى أن الأبعاد الروسية الغربية في هذا الصراع تحدّ من قدرة أنقرة على لعب دور الوساطة فيه، فإن أحد دوافع التمسك بدور الوساطة، هو تكريس وضعها المحايد نسبيا في الأزمة. وتعتقد أنقرة أن مثل هذا الحياد يحدّ من تداعيات الصراع عليها إن على مستوى علاقتها مع روسيا أو شراكتها مع الغرب. ومع الأخذ بعين الاعتبار احتمالية إخفاق جهود الوساطة التركية، فإن أنقرة ستجد نفسها أمام معضلتين رئيسيتين تتمثلان في أن البقاء على الحياد قد يُهمّش مصالحها على المدى البعيد ويؤثر على شراكتها مع أوكرانيا والغرب. كما أن الانخراط في الصراع سيُعرض مصالحها مع روسيا لمخاطر كبيرة. وانطلاقا من ذلك، تبدو الوظيفة الأساسية للتوازن التركي هي تجنب هاتين المعضلتين.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس