توران قشلاقجي - القدس العربي
«أَقيموا بَني أُمّي صُدورَ مَطِيَّكُم»
الشاعر العربي الشنفرى
كان هذا النداء عند الأقوام والقبائل القديمة، يعني الاستعداد إمّا للهجرة أو للحرب. فقد تعّرفت البشرية على الهجرة منذ نشأتها، وكان أول «مهاجر» هو آدم عليه السلام. وأُجبر جميع الأنبياء والفلاسفة على الهجرة أيضا. وخصصت مساحة واسعة في الكتب المقدسة للإشارة إلى هجرة الإنسان، وكذلك أفردت كتب التاريخ الكثير من صفحاتها للحديث عن هجرة القبائل التي حدثت منذ بداية التاريخ البشري.
وكان الناس يستعدون للهجرة في أوقات الفجر أو الغروب، فيحمّلون أكياس السرج على ظهور الجمال والخيول والحمير، ثم يشقون طريقهم في رحلة طويلة يحرص خلالها الجميع، نساء وأطفالا وشيوخا وشبابا، على اللحاق بالقوافل. وتبقى ذكريات طفولتهم وحياتهم في الأماكن التي يهاجرون منها.
وكانوا ينظرون ويتأملون القمر والنجوم والفضاء ليلا، مثل طائر العنقاء أثناء الهجرة إلى ما وراء جبل قاف، ويعبرون الصحارى والأنهار والجبال والبحيرات. يلتقطون إيقاع الموسيقى بأصوات الصفير التي كانوا يصدرونها أثناء الهجرة. ويدخلون عالم الخيال من الحكايات ويسافرون إلى عالم القصص والروايات. كانوا يلقون الأبيات الشعرية، ويكتبون القصائد وهم ينظرون إلى الصحراء والمساحات الخضراء والسماء، متذكرين أحبابهم الذين تركوهم خلفهم، ويحلمون بالأماكن التي غادروها، أو تلك التي يقصدونها، ويطلقون تاريخا للرسم عبر نقش رموز الحيوانات والمناظر الطبيعية التي يرونها، وتترك أثرا في مخيلتهم على الصخور والكهوف. كانوا يتعرفون على أعشاب ونباتات متنوعة ويضيفون نكهات جديدة ولذيذة إلى مأكولاتهم، ويلعبون الألعاب ويبتكرون رقصات ورياضات جديدة للترفيه عن الأطفال الذين سئموا السفر، ولإسعادهم.
الشاعر الإيراني محسن نامجو، يردد أغنيته الشهيرة «أي ساربان» بصوت شجي عذب، فيقول:
«يا حادي الإبل، أيتها القافلة!
أين تأخذون ليلايَ؟
بأخذها تسلبون مني روحي وفؤادي
يا حادي الإبل الى أين ذاهب بليلى؟»
تشهد الثقافة والفن تطورا وتحديثا، منذ القرون القديمة، عن طريق الهجرات المتبادلة بين المجتمعات والأقوام، وكان الأجداد يقولون إن الفن مهاجر، وكانت القبائل تتعلم من بعضها بعضا السياسة والتجارة والعلوم والفنون. هاجر الناس من بابل والهند ومصر ومملكة سبأ إلى أرض اليونان وروما، حاملين معهم آلهتهم وموسيقاهم وحكاياتهم وتماثيلهم وعلومهم وثقافتهم. الأطباء الذين يعالجون الناس بالنباتات التي يكتشفونها في مناطق جغرافية مختلفة أثناء رحلتهم، كانوا يهاجرون أيضا إلى هذه العوالم المجهولة. لقي مئات الأشخاص حتفهم في الصحارى والغابات والبحار والأنهار أثناء الهجرة، وكان الناس يودعون موتاهم ويغادرون الأراضي التي يمرون منها. كانوا يضعون العلامات على المسارات التي يسلكونها. بعضهم يسافر إلى مواطن أخرى لأسباب دينية، وآخرون كانت لديهم أسباب سياسية أو اجتماعية تجبرهم على ذلك. كان بحثهم عن الأمل وحياة جديدة مثل أسلافهم القدامى. تعرضوا تارة للإقصاء، وتارة أخرى للظلم في الأماكن التي يهاجرون إليها هربا من تلك الممارسات. كانوا يعانون من الوحدة في تلك البلاد بعد أن يصلوا إليها متجاوزين الجبال الشاهقة، يغلب عليهم الحزن في معظم الأحيان. الآلهة والأنبياء والفلاسفة والأجداد، كانوا يأمرون باحترام الهجرة والمهاجرين وينصحون بتخصيص أماكن لكل مهاجر من مناطقهم الجغرافية الشاسعة. لهذا السبب فضّل أصحاب الأرض تقاسم خبزهم وطعامهم مع من تقطعت بهم السبل والمحتاجين والمضطهدين والفقراء والمهاجرين. لكن حفنة من الظالمين، لم يكونوا يطيعون الآلهة والأنبياء والفلاسفة والأجداد، فيقومون برجم المهاجرين وطردهم واستعبادهم أو قتلهم، ويصف الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، الظالمين بطريقة جيدة عبر قصيدته «في انتظار البرابرة» قائلا:
«لماذا ننتظر كلنا، هنا في الميدان؟
لأن البرابرةّ يصلون اليوم.
لماذا لا يحدث شيء في مجلس الشيوخ؟
كيف يجلس الشيوخ لكنهم لا يسنون القوانين؟
لأن البرابرة يأتون اليوم.
فما معنى أن يسنّ الشيوخ القوانينّ الآن؟
عندما يأتي البرابرة، سوف يضعون القوانين».
لم يغب الظالمون أبدا عن مسرح التاريخ لكن معظم الناس يتذكرون دائما أن أجدادهم كانوا أيضا من المهاجرين، وكانوا ينصتون لأوامر الآلهة والأنبياء والفلاسفة. تواجه البشرية الهجرة في يومنا مرة أخرى بعد قرون، يحاول البعض عبور مياه البحر الأبيض المتوسط على متن سفن «تيتانيك» صغيرة بحثا عن أمل جديد، رغم مخاطر الغرق، هربا من الاضطهاد السياسي، أو الاحتلال، أو التدهور الاقتصادي، أو حتى الفيضانات والزلازل. ويقول الفيلسوف الفرنسي الشهير زيجمونت بومان، في حديثه عن هؤلاء المهاجرين المعاصرين: «اللاجئ لا يغير مكانا، بل يفقد مكانه في الأرض. يكون قد فقد وطنه لكنه لم يستطع العثور على وطن جديد». وفي الواقع، يواصل البشر الهجرة دائما منذ القرون القديمة وحتى الوقت الحاضر، وحتما سيُواصلون في المقبل من الزمان.
تبدو الهجرة وكأنها مصير الإنسان.. وعندما تعودون جيلا أو جيلين للوراء، سترون أنه حتى أولئك الذين يقولون إنهم ليسوا مهاجرين ينحدرون من أسر مهاجرة، ولذلك، سيكون هناك دائما من يحتضن المهاجرين، ومن يغرق في التشاؤم بسببهم، وسوف يستمر الإنسان في السير بحثا عن أمل جديد وحلم جديد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس