محمد زاهد جول – أخبار تركيا
كثر الحديث عن الانتخابات البرلمانية القادمة في تركيا بانها الانتخابات الحاسمة لمستقبل الأكراد اجتماعياً واقتصاديا وسياسياً في تركيا أولاً، ثم للأكراد خارج تركيا أيضاً، لأن الأكراد في دول الإقليم يتطلعون إلى هذه الانتخابات بكل أهمية وجدية، فهي الاختبار الأكبر والأهم لتجربة يمكن ان تعطي لأبناء القومية الكردية مستقبلاً سياسياً عادلاً، بعد معاناة طويلة من اجل الاعتراف القومي بالهوية الكردية خلال عقود من الهيمنة الدكتاتورية للحكومات التركية قبل حكومات حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الذي سعى إلى إحداث تغيير في البناء الاجتماعي والسياسي في تركيا من خلال حزم ديمقراطية، عالجت الكثير من قضايا الانفتاح الاجتماعي الداخلي، وأسست للمصالحة الوطنية، وهو ما مكن الأحزاب السياسية الكردية من تشكيل أحزاب سياسية تعمل للمشاركة في الحياة السياسية وتولي السلطة السياسية بعد أن كانت احلامها في الماضي لا تطمح ان تكون حتى في المعارضة السياسية فقط.
وعلى أساس التطورات الديمقراطية الأخيرة التي قادها حزب العدالة والتنمية في تطوير الأنظمة السياسية وقوانين عمل الأحزاب السياسية تمكن الأكراد من تنظيم أنفسهم في أحزاب سياسية متنوعة الهوية الفكرية والتيارات السياسية، ولعل من أهمها وأكبرها حتى الآن حزب ديمقراطية الشعوب الذي يتزعمه صلاح الدين ديمرطاش، فالحزب غير اسمه السابق من حزب السلام الديمقراطي إلى حزب ديمقراطية الشعوب، في خطة سياسية لها تطلعات أن تتجاوب مع أوضاع تركيا المعاصرة، بان يكون حزب ديمقراطية الشعوب حزباً سياسياً تركياً، أي لكل الأتراك بكل قومياتهم وليس حزبا قوميا كردياً فقط، وهذه الخطة لا بد أنها جاءت منسجمة أو مستثمرة للتطورات الديمقراطية التي شهدها الشعب التركي في ظل حكومات حزب العدالة والتنمية منذ عام 2002، وقد خاض حزب ديمقراطية الشعوب أولى اختباراته السياسية الناجحة في الانتخابات الرئاسية الأولى، التي انتخب فيها الشعب التركي رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع المباشرة، أي بالانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية التركية، والتي نافس فيها رئيس حزب ديمقراطية الشعوب صلاح الدين ديمرطاش رئيس الحكومة التركية في ذلك الوقت ورئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان، والتي جرت في العاشر من شهر آب عام 2014، وفاز فيها أردوغان بنسبة 52% من الجولة الأولى، بينما حصل ديمرطاش نسبة 9.6%..
لقد كانت تلك الانتخابات علامة بارزة على تطور الديمقراطية السياسية في تركيا، بل كانت علامة بارزة على نجاح حزب العدالة والتنمية بإقناع الشارع الكردي إن ينافس على منصب رئاسة الجمهورية، فلو فاز ديمرطاش في تلك الانتخابات الرئاسة لكان الآن رئيسا لكل الشعب التركي، وهو حلم سياسي لا ينبغي للشعب التركي ان ينسى معانيه ومغازيه، فصلاح الدين ديمرطاش نافس على رئاسة الجمهورية كمواطن تركي له كافة الحقوق الاجتماعية والسياسية بالتساوي مع كل أفراد الشعب التركي، ولكن نسبة فوزه في الانتخابات الرئاسية وهي 9.6% من أصوات الناخبين الأتراك اعتبرت نجاحاً في الانتخابات الرئاسية، ولكنها لن تكون كذلك في الانتخابات البرلمانية إن بقيت على حالها، وستكون مؤشراً على صعوبة كبيرة يواجهها صلاح الدين ديمرطاش في تنافسه مع حزب العدالة والتنمية والأحزاب السياسية المعارضة، فالمنافسة ليس فردية ولا حصرية مع حزب العدالة والتنمية، وشرط الفوز فيها أن يتجاوز حزب ديمقراطية الشعوب الحاجز الانتخابي في القانون التركي وهو 10%، فهي قريبة من 9.6% ولكنها لا تكفي .
ومرة أخرى يجد المراقبون أن هذه النسبة تمثل خطورة في الانتخابات البرلمانية القادمة بعد أيام، لأن أطماح حزب ديمقراطية الشعوب أن يفوز في تلك الانتخابات البرلمانية ودخول أعضائه وانصاره إلى البرلمان التركي، وقد اتخذ حزب ديمقراطية الشعوب تحديا كبيراً أمام نفسه عندما دخل هذه الانتخابات بصفته الحزبية، أي بوصفه حزبا سياسياً منافسا لحزب العدالة والتنمية مرة أخرى، والتحدي في الانتخابات البرلمانية أن قانون الحاجز الانتخابي الذي وضعه الانقلاب العسكري عام 1982 كان عائقاً أمام الأحزاب الصغيرة ، ولكنه اليوم أصبح عائقاً أمام الأحزاب القومية أيضا، ولذلك سعى حزب ديمقراطية الشعوب إلى تجاوز هذه الإعاقة عن طريق توجيه خطابين مختلفين، أحدهما للشعب الكردي في تركيا، والآخر للأقليات التركية الأخرى مثل العلويين والمسيحيين وغيرهم، على امل ان يحقق بهم نجاحاً أكبر في الانتخابات يتجاوز من خلالها الحاجز الانتخابي، وكأنه غير متأكد من أن أبناء قوميته وحدهم يستطيعون تجميع نسبة ال 10% من أصوات الناخبين.
فإذا لم يستطع حزب ديمقراطية الشعوب تحقيق هذه النسبة فإنه سيفقد نحو خمسين نائباً يراهن عليهم الآن أن يكونوا صوته وكتلته النيابية وأداته في مفاوضة حزب العدالة والتنمية على المشاركة في قيادة تركيا في المستقبل وعدم ترك هذه الساحة السياسية لحزب العدالة والتنمية وحده.
إن حزب ديمقراطية الشعوب يدرك ان تركيا تمر في مرحلة نجاح كبير في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ولكنها تفتقد إلى شرط مهم جداً في الديمقراطية الأوروبية والغربية الحديثة، وهو شرط تداول السلطة بين الأحزاب السياسية الحاكمة والمعارضة، وقد فاز حزب العدالة والتنمية في ثلاث انتخابات برلمانية وشكل الحكومة التركية في ثلاث دورات برلمانية متوالية حتى الآن، ولا بد أن تنتقل السلطة السياسية إلى حكومة من حزب آخر غير حزب العالة والتنمية، ولكن بشرط ان يكون منافسا سياسياً وسلمياً وديمقراطياً أمام الشعب التركي وأمام شعوب العالم أجمع.
وكذلك أدرك حزب ديمقراطية الشعوب ومن ورائه حزب العمال الكردستاني وكل الأكراد غير المنضوين في حزب العدالة والتنمية وهم اكثرية الشعب الكردي ان لا طريق لهم غير العمل السياسي الديمقراطي لتحقيق المشاركة الحقيقية في إدارة الدولة التركية، فالطرق الأخرى وبالأخص العنف والإرهاب ثبت فشلها وانها طرق عقيمة، وكانت خسائرها على الأكراد أكبر من مكاسبها في الماضي، فضلا عما أحدثته من دمار على الشعب والوطن، وبالتالي فإن حزب ديمقراطية الشعوب أمام خيار استثمار التطور الديمقراطي الذي صنعه حزب العدالة والتنمية، وأنه أمام فرصة تاريخية للمشاركة في بناء تركيا الحديثة، ولكن بشرط أن يدخل الحياة السياسية الديمقراطية في تركيا كغاية وليس كوسيلة فقط، أي للمنافسة السياسية الصحيحة وليس كحزب معارض ومناكف على طريقة حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية أو حركة الكيان الموازي الارهابي، أو حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله أوجلان، أو غيره.
فإذا تمكن حزب ديمقراطية الشعوب من دخول البرلمان التركي فإن نحو خمسين من ممثلي الأكراد سوف يدخلون البرلمان التركي وهم يمثلون حزبا يرى التيار الكردي الأعلى صوتاً واعلى حضوراً في الإعلام الداخلي والخارجي، ولذلك فإن الحزب يزج بكل أعضائه وانصاره للمشاركة في الانتخابات، هل يستحق صلاح الدين ديمرطاش أن يكون قائدا لأكراد تركيا؟
إن الفرصة التي قدمها حزب العدالة والتنمية لكل القوميات المضطهدة للمشاركة في الانتخابات وتشكيل الحكومات السياسية عن طريق الأحزاب السياسية، هي فرصة تستحق الشكر، بشرط ان يلتزموا خوض الانتخابات فيها بطرق ديمقراطية صحيحة وليس بالتهديد والتخويف والارهاب، فدخول حزب ديمقراطية الشعوب إلى البرلمان التركي هي مصلحة تركية أولاً، وهي مصلحة لحزب العدالة والتنمية ثانياً، لأنها في المحصلة نجاح للمشروع الديمقراطي الذي نشره حزب العدالة والتنمية في تركيا، ولكن بشرط ان لا يستخدمه ديمرطاش ضد تركيا ولا ضد حزب العدالة والتنمية.
وإن الخطوة التي قام بها حزب ديمقراطية الشعوب بطرح نفسه حزبا تركيا وليس حزباً قومياً هي خطوة إيجابية وصحيحة، وقد تتيح له يوما إذا أثبت أنه حزب منافس وليس حزب مناكف إلى ان يكسب ثقة الشعب التركي، وبالتالي أن يصبح أحد الأحزاب التركية الكبرى التي تنافس حزب العدالة والتنمية وتتبادل معه السلطة ديمقراطياً، وهذه خطوة مهمة حتى لو أراد الأكراد اعتبارها انتصاراً للمسيرة النضالية التي خاضوها من قبل، فالمهم ان هذه الخطوة يمكن أن تنجح إذا اقتنع بها الشعب التركي عملياً وليس قولياً فقط، فشرط نجاح حزب ديمقراطية الشعوب في الانتخابات القادمة ليست في تجاوز الحاجز الانتخابي فقط، وإنما نجاح عملية المشاركة السياسية للمنافسة الحزبية السياسية الديمقراطية، وليس المناكفة ولا التهديد بالعصيان المدني في حالة الفشل في كسب ثقة الشعب التركي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس