د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
انتظر المسلمون أكثر من ثمانية قرون حتى تحققت البشارة النبوية بفتح القسطنطينية، وكان حلمًا غاليا وأملا عزيزا راود الخلفاء والقادة والفاتحين عبر تاريخنا الإسلامي المجيد، هذا الحلم الذي لم يُخب جذوته مر الأيام وكر السنين، وظل هدفا مشبوبا يثير في النفوس رغبة عارمة في تحقيقه حتى يكون صاحب الفتح هو محل ثناء النبي (صلى الله عليه وسلم) في قوله: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش."
وتمر خلال هذه الإيام الذكرى السنوية لفتح القسطنطينية (21 جمادى الأولى 857ه/ 29 مايو 1453م)، ولعل ما يميز هذه السنة هي الانتخابات الرئاسية التركية التي تتزامن أطوارها مع ذكرى الفتح العظيمة. ففوز حزب العدالة والتنمية بقيادة الزعيم رجب طيب أردوغان سيكون بإذن الله تعالى انتصارا جديدا لهذه الأمة في تاريخها الحديث.
كانت القسطنطينيَّة قبل فتحها عقبةً كبيرةً في وجه انتشار الإِسلام في أوروبا، ولذلك فإِنَّ سقوطها يعني: فتح الإِسلام لدخول أوروبا بقوَّةٍ وسلامٍ لمعتنقيه أكثر من ذي قبل. ويعتبر فتح القسطنطينيَّة من أهمِّ أحداث التَّاريخ العالميِّ، وخصوصاً تاريخ أوروبا، وعلاقتها بالإِسلام؛ حتَّى عدَّه المؤرِّخون الأوربيُّون، ومن تابعهم نهاية العصور الوسطى، وبداية العصور الحديثة. (أوزنتونا، 1988، ص384).
وقد قام السُّلطان بعد ذلك على ترتيب مختلف الأمور في المدينة، وإِعادة تحصينها، واتَّخذها عاصمةً للدَّولة العثمانيَّة، وأطلق عليها لقب إِسلام بول؛ أي: مدينة الإِسلام.(فريد بك، 1988، ص164)
ولقد تأثَّر الغرب بنبأ هذا الفتح، وانتاب النَّصارى شعورٌ بالفزع، والألم، والخزي، وتجسَّم لهم خطر جيوش الإِسلام القادمة من إستانبول، وبذل الشُّعراء، والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد، وبراكين الغضب في نفوس النَّصارى ضدَّ المسلمين، وعقد الأمراء، والملوك اجتماعاتٍ طويلةً، ومستمرَّةً، وتنادى النَّصارى إِلى نبذ الخلافات، والحزازات، وكان البابا نيقولا الخامس أشدَّ النَّاس تأثُّراً بنبأ سقوط القسطنطينيَّة، وعمل جهده، وصرف وقته في توحيد الدُّول الإيطاليَّة، وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمراً عقد في روما، أعلنت فيه الدُّول المشتركة عن عزمها على التَّعاون فيما بينها، وتوجيه جميع جهودها، وقوَّتها ضدَّ العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتمَّ إِلا أنَّ الموت عاجل البابا بسبب الصَّدمة العنيفة النَّاشئة عن سقوط القسطنطينيَّة في يد العثمانيين، والَّتي تسبَّبت في همِّه، وحزنه، فمات كمداً في 25 مارس سنة 1455م.(فهمي، 1987، ص137)
وتحمَّس الأمير فيليب الطيب دوق بورجونديا، والتهب حماساً، وحميَّةً واستنفر ملوك النَّصارى إِلى قتال المسلمين، وحذا حذوه البارونات، والفرسان، والمتحمِّسون، والمتعصِّبون للنَّصرانيَّة، وتحوَّلت فكرة قتال المسلمين إِلى عقيدةٍ مقدَّسةٍ تدفعهم لغزو بلادهم، وتزعَّمت البابويةُ في روما حروبَ النَّصارى ضدَّ المسلمين، وكان السُّلطان محمَّد الفاتح بالمرصاد لكلِّ تحرُّكات النَّصارى، وخطَّط، ونفَّذ ما رآه مناسباً لتقوية دولته، وتدمير أعدائه، واضطَّر النَّصارى الَّذين كانوا يجاورون السُّلطان محمَّداً، أو يتاخمون حدوده في اماسيا، وبلاد المورة، وطرابزون، وغيرهم أن يكتموا شعورهم الحقيقيَّ، فتظاهروا بالفرح، وبعثوا وفودهم إِلى السُّلطان في أدرنة لتهنئته على انتصاره العظيم.(فهمي، 1987، ص140)
وحاول البابا بيوس الثَّاني بكلِّ ما أوتي من مقدرةٍ خطابيَّةٍ، وحنكةٍ سياسيَّةٍ تأجيج الحقد الصَّليبيَّ في نفوس النَّصارى شعوباً، وملوكاً، قادةً، وجنوداً، واستعدَّت بعض الدُّول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيِّين، ولمَّا حان وقت النَّفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الدَّاخلية، فلقد أنهكت حرب المئة عام إِنكلترا، وفرنسا، كما أنَّ بريطانيا كانت منهمكةً في مشاغلها الدُّستوريَّة، وحروبها الأهليَّة، وأمَّا أسبانيا فهي مشغولةٌ بالقضاء على مسلمي الأندلس، وأمَّا الجمهوريات الإِيطاليَّة فكانت تهتمُّ بتوطيد علاقاتها بالدَّولة العثمانيَّة مكرهةً، وحبَّاً في المال، فكانت تهتمُّ بعلاقتها مع الدَّولة العثمانيَّة.
وانتهى مشروع الحملة الصَّليبية بموت زعيمها البابا، وأصبحت المجر، والبندقيَّة تواجه الدَّولة العثمانيَّة لوحدهما؛ أمَّا البندقيَّة، فعقدت معاهدةً صداقةً، وحسن جوارٍ مع العثمانيِّين رعايةً لمصالحها، وأمَّا المجر فقد انهزمت أمام الجيوش العثمانيَّة، واستطاع العثمانيُّون أن يضمُّوا إِلى دولتهم بلاد الصِّرب، واليونان، والأفلاق، والقرم، والجزر الرَّئيسيَّة في الأرخبيل. وقد تمَّ ذلك في فترةٍ قصيرة، حيث داهمهم السُّلطان الفاتح، وشتَّت شملهم، وأخذهم أخذاً عظيماً.
وحاول البابا (بيوس الثاني) بكلِّ ما أوتي من مهارةٍ، وقدرةٍ سياسيَّةٍ تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين: حاول أوَّلاً أن يقنع الأتراك باعتناق الدِّين النَّصرانيِّ، ولم يقم بإِرسال بعثات تبشيريَّة لذلك الغرض، وإِنَّما اقتصر على إِرسال خطابٍ إِلى السُّلطان محمَّد الفاتح يطلب منه أن يعضد النَّصرانية، كما عضدها قبله قسطنطين، وكلوفيس، ووعده بأنَّه سيكفر عنه خطاياه إِن هو اعتنق النَّصرانية مخلصاً، ووعده بمنحه بركته، واحتضانه، ومنحه صكَّاً بدخول الجنَّة. ولما فشل البابا في خطَّته هذه لجأ إِلى الخطَّة الثَّانية خطَّة التَّهديد، والوعيد، واستعمال القوَّة، وكانت نتائج هذه الخطَّة الثَّانية قد بدأ فشلها مسبقاً بهزيمة الجيوش الصَّليبيَّة، والقضاء على الحملة الَّتي قادها هونياد المجري.(فهمي، 1987، ص141).
وأمَّا آثار هذا الفتح المبين في المشرق الإِسلاميِّ؛ فنقول: لقد عمَّ الفرح، والابتهاج المسلمين في ربوع آسيا، وأفريقية، فقد كان هذا الفتح حلم الأجداد، وأمل الأجيال، ولقد تطلَّعت له طويلاً، وها قد تحقَّق، وأرسل السُّلطان محمَّد الفاتح رسائل إِلى حكَّام الدِّيار الإِسلاميَّة في مصر، والحجاز، وبلاد فارس، والهند، وغيرها، يخبرهم بهذا النَّصر الإِسلاميِّ العظيم ـ وأذيعت أنباء الانتصار من فوق المنابر، وأقيمت صلوات الشُّكر، وزُيِّنت المنازل، والحوانيت، وعلِّقت على الجدران، والحوائط الأعلام، والأقمشة المزركشة بألوانها المختلفة.
يقول ابن إِياس صاحب كتاب «بدائع الزُّهور» في هذه الواقعة: «فلمَّا بلغ ذلك، ووصل وفد الفاتح؛ دُقَّت البشائر بالقلعة، ونودي في القاهرة بالزِّينة، ثمَّ إِنَّ السُّلطان عيَّن برسباي أمير آخور ثاني رسولاً إِلى ابن عثمان يهنِّئه بهذا الفتح».(فهمي، 1987، ص142)
وندع المؤرِّخ أبا المحاسن بن تغري بردي يصف شعور النَّاس، وحالهم في القاهرة عندما وصل إِليها وفد الفاتح، ومعهم الهدايا، وأسيران من عظماء الرُّوم، قال: «قلت: ولله الحمد والمنَّة على هذا الفتح العظيم، وجاء القاصد المذكور، ومعه أسيران من عظماء إستانبول، وطلع بهما إِلى السُّلطان (سلطان مصر إِينال) وهما من أهل القسطنطينيَّة، وهي الكنيسة العظيمة بإستانبول، فسرَّ السُّلطان، والنَّاس قاطبةً بهذا الفتح العظيم، ودُقَّت البشائر لذلك، وزُيِّنت القاهرة بسبب ذلك أيَّاماً، ثمَّ طلع القاصد المذكور وبين يديه الأسيران إِلى القلعة في يوم الاثنين خامس وعشرين شوَّال بعد أن اجتاز القاصد المذكور، ورفقته شوارع القاهرة، وقد احتفل النَّاس بزينة الحوانيت، والأماكن، وأمعنوا في ذلك إِلى الغاية، وعمل السُّلطان الخدمة بالحوش السُّلطاني من قلعة الجبل...».(ابن تغربردي، 1971، 16/71)
وهذا الَّذي ذكره ابن تغري بردي من وصف احتفال النَّاس، وأفراحهم في القاهرة بفتح القسطنطينيَّة ما هو إِلا صورةً لنظائر لها قامت في البلاد الإِسلاميَّة الأخرى. وقد بعث السُّلطان محمَّد الفاتح برسائل الفتح إِلى سلطان مصر، وشاه إِيران، وشريف مكَّة، وأمير القرمان، كما بعث بمثل هذه الرَّسائل إِلى الأمراء المسيحيِّين المجاورين له في المورة، والأفلاق، والمجر، والبوسنة، وصربيا، وألبانيا، وإِلى جميع أطراف مملكته.
إن هذا الاحتفال العظيم بفتح القسطنطينيَّة، و-رغم الفارق الزمني- يتشابه مضمونه كثيرا مع احتفالات فوز حزب العدالة التنمية في الإستحقاقات التركية، ولعل هذا نابع أساسا من ذلك التضامن الذي يجوب كل قطر إسلامي في السراء والضراء.
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م صص93-95
بن تغري بردي، النُّجوم الزَّاهرة، الهيئة المصريَّة العامَّة للتَّأليف والنَّشر، 1391هـ/1971م.
محمَّد فريد بك، تاريخ الدَّولة العليَّة العثمانيَّة، تحقيق الدُّكتور إِحسان حقِّي، دار النَّفائس، 1408هـ/1988م.
يلماز أوزنتونا ،تاريخ الدولة العثمانيَّة، ترجمه إِلى العربيَّة عدنان محمود سلمان، د. محمود الأنصاري، المجلَّد الأوَّل، منشورات مؤسَّسة فيصل للتَّمويل، تركيا، إِستانبول 1988م.
عبد السَّلام عبد العزيز فهمي، السُّلطان محمَّد الفاتح، فاتح القسطنطينيَّة، وقاهر الرُّوم، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الرَّابعة، 1407هـ/1987م.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس