عبد الحافظ الصاوي - العربي الجديد
قبل أيام خرج علينا وزير المالية والخزانة التركي محمد شيمشك بتصريح لافت ومثير قال فيه : "لم يعد أمام تركيا خيار سوى العودة للمسار العقلاني".
ويأتي تصريح شيمشك في وقت شديد الحرج، لما يمر به الاقتصاد التركي من مشكلات، كما يأتي في وقت يأمل الشعب الذي انتخب الرئيس رجب طيب أردوغان وتحالف الجمهور، في أن يجد مخرجًا في الأجل القصير والمتوسط من تلك التداعيات الاقتصادية والاجتماعية السلبية.
وعشية إجازة عيد الأضحى، تجاوز سعر صرف الدولار 26 ليرة، وثمة حالة من الارتباك لدى الكثيرين، حول مصير سعر صرف العملة التركية، وباقي مكونات المعادلة الاقتصادية المبنية على تراجع قيمة الليرة، وبخاصة أن معدل التضخم خلال الشهور الخمسة الماضية شهد تراجعًا ملحوظًا.
وكان الاقتصادي العالمي البارز، محمد العريان قد صرح مؤخرا أن وزير المالية التركي شيمشك، يحتاج إلى الوقت والدعم، والحقيقة أن هذا ما تحتاجه المجموعة الاقتصادية ككل في تركيا. فأمامها تحديات كثيرة، على رأسها إعادة الثقة لدى كافة الشركاء المعنيين بالنشاط الاقتصادي.
وننتظر أن نرى انعكاسًا عمليًا لاصطلاح شيمشك "السياسة الاقتصادية العقلانية" على الأرض، لنكون على بينة من مكوناتها، وطريقة عملها، وكذلك معرفة النتائج المترتبة عليها. وهو ما يجعلنا رهن القاعدة المعروفة بـ "ننتظر ونرى".
ويضعنا تصريح شيمشك أمام استفسار حول تصنيف السياسات الاقتصادية، ما بين العاطفية والعقلانية، وأيهما أفضل للمجتمع بشكل عام؟
قد تكون السياسات العقلانية ذات تكلفة اقتصادية واجتماعية عالية في مرحلة ما، من أجل تصحيح المسار، ثم يستعيد المجتمع تلك التكلفة التي تحملها في فترة ما، في شكل خدمات أفضل، أو مستوى معيشة أعلى، أو حالة استقرار بشكل عام في الاقتصاد.
أو قد تعني تجنب العواطف، وتحمل كل قطاع أو شريك في النشاط الاقتصادي مسؤولياته، وبالتالي تكون نتيجتها توظيفا صحيحا للموارد الاقتصادية، ويجني المجتمع ثمارها الإيجابية، فلا تدفع فواتير ضمنية، من أجل استقرار هش، أو تعاف غير منتظر.
ونظرًا لأن التصريح يحمل وجهة نظر، وبلا شك له مدلولاته لدى شيمشك، ولكن لنجتهد في التعريف بمضمون السياسات الاقتصادية العقلانية، والتي يمكن أن ندلل على مضمونها أو ماهيتها فيما يلي:
سياسة متوازنة
ليس من العقلانية في شيء أن يتم تسليم قيادة السياسة الاقتصادية لأحد مكوناتها، كأن تتمكن السياسة النقدية من خلال البنك المركزي من توجيه السياسة الاقتصادية، دون مشاركة باقي المكونات كالسياسة المالية والتجارية والاستثمار والتوظيف.
فالقرارات المتخذة في هذه الحالة، ستكون فقط معبرة ومحققة للمصالح الاقتصادية من خلال رؤية البنك المركزي، مثل رفع سعر الفائدة، أو تحرير سعر الصرف، أو كيفية معالجة التضخم، ولكن هذه المتغيرات، لا تعمل وحدها في المحيط الاقتصادي، فرفع سعر الفائدة مثلًا، يكون في صالح المدخرين، وقد يساعد في لجم التضخم، ولكنه ضد مصالح المنتجين والمقترضين، وقد يؤدي لركود.
ومن شأن رفع سعر الفائدة أن يكلف موازنة الحكومة أعباء كبيرة، إذا ما كانت تعتمد على القروض في تمويل مشروعاتها، أو تمويل عجز الموازنة، وهكذا باقي المؤشرات، إذاً السياسة الاقتصادية العقلانية، لا بد أن تكون متوازنة وتراعي باقي شركاء النشاط الاقتصادي.
ومن الصعب أن تكون هناك سياسة اقتصادية ترضي جميع الشركاء، ولكن الأهم أن يتم اختيار سياسة اقتصادية تحقق أعلى الإيجابيات وأقل السلبيات على المستوى العام.
مراعاة التدرج
في بعض الأحوال، يتجه صانع السياسة الاقتصادية للقرارات السريعة والمفاجئة للسوق، تحت زعم العلاج بالصدمة، ويؤدي ذلك إلى حالات إرباك للمشاركين في النشاط الاقتصادي، فقرار مثل تحرير سعر الصرف بشكل مفاجئ، يجعل المدخرين في حيرة من أمرهم، وكذلك يضع المستوردين أمام حسابات جديدة، فضلًا عن أعبائه الاجتماعية، لأن مثل هذا القرار يؤدي إلى رفع معدلات التضخم فورًا.
ولكن السياسة الاقتصادية العقلانية يجب أن تعتمد التدرج، بحيث تهيئ المجتمع لما سيُتخذ من قرارات، وتحمل تبعاتها، وكذلك تعطي بقية مؤسسات الدولة الفرصة للتكيف مع القرارات الجديدة، فمثل قرار تحرير سعر الصرف، يتطلب رقابة على الأسواق، كما يتطلب توفير بدائل من قبل الحكومة للمدخرين، حتى لا يكونوا ضحايا المضاربات، والدخول في مجالات لا تتوفر لهم فيها الخبرات اللازمة.
إعلاء قيمة الاقتصاد الإنتاجي
من آفات الاقتصاد الرأسمالي، تلك المعادلة غير المتوازنة بين أداء الاقتصاد المالي والنقدي من جهة، والاقتصاد الإنتاجي أو الحقيقي من جهة أخرى، ففي الوقت الذي تبلغ فيه قيمة الناتج المحلي الإجمالي العالمي ما دون الـ 100 تريليون دولار، نجد القيمة السوقية لأسواق المال، والمصارف، وباقي المؤسسات المالية أضعاف أضعاف قيمة الناتج المحلي الحقيقي للعالم.
وهو ما ظهر بوضوح، في الأزمة المالية العالمية في عام 2008، حيث عمّقت تجارة الديون وأسواق المال الأزمة، وانعكست آثارها السلبية على كافة دول العالم، سواء في الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي، وظل الاقتصاد العالمي يعاني منها لسنوات.
فالسياسة الاقتصادية العقلانية، تتطلب أن تُحدث توازناً بين مكونات الاقتصاد الإنتاجي للسلع والخدمات، وتلك التعاملات المصرفية والخاصة بأسواق المال، بما يحد من المضاربات، ويساعد على أن يجني العاملون في الاقتصاد الإنتاجي عائدا يكافئ ما يبذلونه من جهد.
وعلى السياسة الاقتصادية العقلانية أن تفرض حالة من العدالة الضريبية التي تراعي طبيعة الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وكذلك أن تحرص على عدالة توزيع الثروة داخل المجتمع عبر الآليات المختلفة للسياسة المالية، من ضرائب وجمارك ورسوم، والمساعدات والمنح الاجتماعية.
الحرص على التوازن المالي
رأينا مظاهر نجاح في بعض التجارب الاقتصادية، ولكنها كانت تخفي خلف مؤشراتها المالية والنقدية الجيدة، آثاراً سلبية في جوانب أخرى، كان لها آثار تدميرية في الأجل المتوسط والطويل، مثل اعتماد بعض التجارب على الديون في تمويل التنمية أو عجز الموازنة، أو اللجوء للأموال الساخنة، من أجل تحسين رصيد احتياطي النقد الأجنبي، أو العمل على استقرار سعر الصرف، في حين تتحمل الموازنة العامة للدولة فواتير باهظة للمديونية، كما يتعرض رصيد البلاد من النقد الأجنبي لمقامرات الأموال الساخنة.
فالسياسة الاقتصادية العقلانية، هي تلك السياسة التي تستفيد من الموارد المالية المحلية بشكل كبير، وتعتمد عليها في تمويل التنمية، وأن تنظر للمصادر الخارجية في إطار التكملة للموارد المحلية، وليس الاعتماد على المصادر الخارجية.
كما تحرص تلك السياسة على تحسين أداء الصادرات بحيث تضم أمرين مهمين، باعتبارهما أحد مصادر النقد الأجنبي: أن تجعل الصادرات تضم معظم مكوناتها من الموارد المحلية، وأن تكون تلك الصادرات ذات قيمة مضافة عالية.
أن تحرص تلك السياسة على تمويل المشروعات العامة، دون أن ترهق الموازنة العامة، وأن تتيح للقطاع الخاص والأهلي الفرص لما يمكن القيام به، من مشروعات يمكن أن يتخلى عنها القطاع العام أو الحكومة، بحيث يكون العجز بالموازنة في الحدود الآمنة، أو أن تصل إلى الأمر الأكثر إيجابية بأن تحقق الموازنة العامة للدولة فائضًا.
التقلبات هي سمة الأداء الاقتصادي في ظل النظام الرأسمالي، والسياسة الاقتصادية العقلانية، هي تلك التي تحرص على استقرار مناخ الاستثمار بوجه خاص وباقي جوانب النشاط الاقتصادي بشكل عام، من أجل توفير فرص العمل، ومواجهة تقلبات السوق الدولية.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس