صالحة علام - الجزيرة مباشر
توقفت المباحثات السياسية الرسمية التي بدأت منذ مدة وجيزة بين المسؤولين الأتراك ونظرائهم السوريين بوساطة روسية وتشجيع إيراني، بهدف التمهيد لعودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، دفع أنقرة على ما يبدو لاتخاذ خطوات أحادية الجانب لحل مشاكلها المرتبطة بتطورات الملف السوري، وفي القلب منها قضية اللاجئين السوريين الموجودين على أراضيها، التي تُسبب لها صداعًا مستمرًا منذ مدة ليست بالقليلة، إلى جانب إشكالية أمنها القومي مع استمرار وجود العناصر الكردية المسلحة على حدودها، وقيام القوات الأمريكية المنضوية تحت لواء التحالف في شرق الفرات بتكثيف وجودها بصورة لافتة على الأراضي السورية حاليًا.
إذ تم الدفع بأعداد كبيرة من الجنود المدججين بمختلف أنواع الأسلحة والعتاد العسكري، وتواترت الأنباء التي تتحدث عن احتمالية قيام القوات الأمريكية بمشاركة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” بتوجيه ضربة للقوات الإيرانية الموجودة في المنطقة، وبخاصة تلك المتمركزة في مدينتي البوكمال والميادين في ريف دير الزور الشرقي المحاذية للحدود السورية–العراقية، من أجل فرض سيطرة القوات الأمريكية على خط الحدود السورية–العراقية، وقطع الطريق بين القوات الإيرانية الموجودة في شرق سوريا وتلك المتمركزة في المنطقة الحدودية العراقية.
صحيح أن قوات التحالف وقيادات “قسد” نفت المعلومات المتداولة إعلاميًا بهذا الخصوص، مؤكدين أن هدف التحركات الأخيرة هو عناصر تنظيم الدولة “داعش” ومنع عودتهم، وعرقلة أية محاولة تستهدف استعادة حيويتهم مرة أخرى، لما في ذلك من تهديد خطير على أمن المنطقة وسلامتها.
إلا أن قلقًا انتاب المسؤولين الأتراك، خصوصًا وأن هذه التحركات الكثيفة لوجستيًا للقوات الأمريكية تأتـي متزامنة مع المناوشات التي تندلع بين الحين والآخر بين قوات الجيش السوري الحر الموالي لتركيا وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي يندرج تحتها عناصر وحدات حماية الشعب التي تعدّها أنقرة أحد أذرع حزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية.
التحركات الأمريكية جاءت بمثابة جرس إنذار لأنقرة، لما يتم إعداده حاليًا في الخفاء، ويهدف إلى تغيير المعادلة على الأرض، وإعادة تموضع القوات العسكرية الموجودة هناك، رغم أنه لم يتضح بعد أيهم سيكون المستهدف من جانب قوات التحالف، والأسباب التي تدفع هذه القوات للقيام بتلك الخطوة، فقد تكون القوات الإيرانية بالفعل ليست هي المستهدفة، وبالتالي سيكون المستهدف في هذه الحالة إما القوات الروسية أو القوات التركية!!
تزامنًا مع هذه التحركات، وتوقف الوساطة الروسية بين أنقرة ودمشق بسبب بعض الإشكاليات التي طفت مؤخرًا على السطح بينهما، وأدت إلى تعكير صفو علاقاتيهما، تلقت تركيا رسائل من جانب النظام السوري يطالبها بسحب قواتها الموجودة على أراضيه إذا كانت ترغب بالفعل في عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين.
وهو الطلب الذي قوبل برفض قاطع من جانب تركيا، التي ترى أن النظام السوري عاجز عن تحقيق أمن حدوده، وهو ما ينعكس سلبًا على أمنها القومي، المهدد من جانب عناصر مسلحة تريد فرض سيطرتها على المنطقة، وإعلان حكم ذاتي فيها، الأمر الذي يلغي أية إمكانية للتباحث بشأن سحب قواتها في هذه المرحلة الحرجة.
ولهذا السبب تحديدًا اشترطت تركيا نجاح النظام السوري في إنهاء وجود التنظيمات الإرهابية الموجودة على طول حدود بلاده معها، وإحكام سيطرته على عناصرها، والعمل على إيجاد حل سياسي لمشاكله مع المعارضة لما في ذلك من ضرب عصافير عدة بحجر واحد، منها أن تضمن تركيا تحقق أمنها القومي مع اختفاء هذه العناصر من المناطق الحدودية، ويحافظ النظام السوري على وحدة أراضيه وسلامتها كاملة غير منقوصة، ويعود الاستقرار السياسي والأمن لسوريا، قبل الحديث عن عقد لقاء مباشر بين الرئيسين، أو إنهاء الوجود العسكري التركي في الداخل السوري.
لم تتوقف تركيا عند هذا الحد، بل بدأت في اتخاذ قرارات عدة عسكرية وسياسية وإدارية، وتنفيذها فعليًا على الأرض، وترتبط بصورة مباشرة بالأوضاع في مناطق شرق الفرات التي تتمركز فيها قواتها بالتعاون مع قوات الجيش السوري الحر، وتخضع إداريًا لها، وكأنها بهذه التحركات تؤكد سيطرتها على المناطق الخاضعة لها، وتعزز من وجودها رغمًا عن النظام السوري.
وأهم هذه القرارات، وضع نظام إداري جديد لحوالي ثلاث عشرة منطقة في الشمال السوري، يرتكز على مبدأ الحاكم الواحد يخضع لسلطته المطلقة المحافظون الذين سبق تعيينهم في المناطق التي تصنفها تركيا “آمنة” مثل تل أبيض وجرابلس ورأس العين وإعزاز والباب، وبررت ذلك القرار بأنه من أجل تنظيم علاقاتها مع الداخل السوري من جهة، ولمنع تضارب المسؤوليات الإدارية بين الحكومات المحلية في المناطق التي تم إقامتها في أعقاب عملياتها العسكرية درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، وما استتبع ذلك من مشاريع لجذب السوريين اللاجئين لديها، وحثهم على العودة الطوعية من الجهة الأخرى.
وفي هذا الإطار قامت تركيا خلال الفترة الماضية بالتركيز على المشروعات التي ترتبط بصورة مباشرة بتوفير احتياجات اللاجئين اليومية، من أماكن للعمل ومشافٍ ومدارس وسكن، إلى جانب تبني سياسة تنفيذ المشروعات التي تحقق الاكتفاء الذاتي من المنتجات الصناعية والزراعية، والتشجيع على فتح الكثير من الأنشطة التجارية الخاصة بهدف توفير المزيد من فرص العمل أمام العائدين، وهي المشروعات التي يُطلق عليها “نموذج حلب” لارتباط معظمها بقرى ريف حلب الشمالي، وعدد من القرى الموجودة في الشرق منه.
وتقتضي الخطة التركية الجديدة إعادة تنشيط الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمختلف المناطق التي تقع تحت سيطرتها وبالأخص حلب، الأمر الذي سيسمح لها بتمكين آلاف السوريين المقيمين لديها بالعودة إلى بلادهم مرة أخرى، ولذا فإنها رغم عدم تحقق تقدم ملموس على صعيد عودة العلاقات التركية–السورية مع توقف الوساطة الروسية وجدت أنقرة نفسها مضطرة إلى التفاوض مباشرة مع نظام بشار الأسد، لوضع آليات تنفيذ هذه الخطة المهمة بالنسبة لها، التي من المفترض أن تنتهي منها قبيل الدخول في معركة الانتخابات المحلية المنتظرة في شهر مارس/آذار المقبل، حيث يبذل حزب العدالة والتنمية جهودًا جبارة من أجل استعادة سيطرته على بلديات إسطنبول وأنقرة وأنطاليا التي فقدها في الانتخابات الماضية نتيجة توظيف المعارضة لملف اللاجئين السوريين فيها.
أما على الصعيد السياسي فقد رهنت تركيا عودة علاقاتها مع نظام بشار الأسد بتحقيق تقدم ملموس في مكافحته للتنظيمات الإرهابية الموجودة على طول خط الحدود بينهما، وإبعاد عناصرها المسلحة عن المنطقة، وإيجاد حلول سياسية للأزمة السورية، وتسريع خطوات وضع دستور جديد للبلاد يتم بمقتضاه استيعاب الفصائل السورية كافة، وضمان مشاركتها بفاعلية في إدارة بلادها.
وعسكريًا قامت وزارة الدفاع التركية مؤخرًا بإعادة تموضع قواتها، وزيادة عدد أفرادها خاصة في رأس العين وتل أبيض مع دعمهم بأحدث ما أنتجه المصانع التركية من طائرات مسيّرة وأسلحة ومعدات ثقيلة استعدادًا لأية تطورات قد تحدث خلال المرحلة المقبلة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس