توران قشلاقجي - القدس العربي
أصبحت الرُهابات، أو المخاوف تحيط بالإنسان الحديث من كل جانب، بل إنها احتلت عقله وأصابته بما هو أشبه بالضمور، فلم يعد قادرا على إدراك هويته أو على معرفة نفسه وذاته. كل هذه الأمور، إلى جانب الحاجة للسرعة وحالة الغموض السائدة في الحياة الحديثة، أدت إلى ظهور العديد من أنواع الرهاب مثل، الرهاب الاجتماعي، أو رهاب الخلاء، أو الخوف من الفشل، بالإضافة إلى ذلك، تسبب التدفق الكثيف والمتواصل للمعلومات والمقارنة الاجتماعية التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي إلى ظهور مخاوف جديدة لدى الأفراد مثل عقدة النقص أو الفومو (الخوف من تفويت الفرصة).
كثرت هذه المخاوف بشكل كبير جدا لدرجة أننا أصبحنا نصادف أنواعا جديدة منها في كل يوم. وفي ما يلي بعض منها: النوموفوبيا (رهاب فقدان الهاتف المحمول)، والأفيوفوبيا (رهاب الطيران)، والباتوفوبيا (رهاب الاقتراب من المباني المرتفعة)، والزينوفوبيا (رهاب الأجانب)، والأغورافوبيا (رهاب الخلاء)، والمونوفوبيا (الخوف من الوحدة)، والأنتوموفوبيا (رهاب الحشرات)، والكيموفوبيا (رهاب الكيماويات)، والبينيافوبيا (رهاب الفقر)، والفاتفوبيا (رهاب السمنة)، والتستوفوبيا (رهاب الامتحانات)، والبانوفوبيا (الرهاب من كل شيء).
كانت لدى الأجيال السابقة أحلام وآمال في بداية الحداثة.. أمّا الآن، فأصبحت هناك مخاوف وقلق لدى الناس في هذا العصر المعروف بـ»ما بعد الحداثة»، أو «ما بعد الحقيقة». كما أن تجارب البشر في القرنين العشرين والحادي والعشرين، أبعدت الإنسانية عن كل ما هو إنساني. ونرى اليوم مع الأسف كيف تحولت حالات النرجسية، وانعدام الثقة والتضامن، والفردية المفرطة، والعصاب والهستيريا إلى أعراف اجتماعية، لاسيما مع انهيار الحياة الاجتماعية في عصرنا.
لا شك في أن التطورات التكنولوجية السريعة، والعولمة، والتغيرات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الحديث، أدت إلى حدوث تغيرات في طبيعة مخاوفنا، وحالتنا النفسية. هذه المخاوف تظهر أحيانا على شكل أمور محددة وواضحة مثل الرُهابات، وأحيانا أخرى تظهر على شكل قلق، واضطرابات، ومخاوف عامة. ومع التطور التكنولوجي وظهور الواقع الافتراضي والتحول الرقمي، يواجه الناس الآن مخاوف جديدة مثل رهاب وسائل التواصل الاجتماعي، والخوف من الواقع الافتراضي، ورهاب الذكاء الاصطناعي. وفي جذور هذه المخاوف كلها، تكمن صعوبة التكيف مع التغيرات التكنولوجية، والهواجس المتعلقة بالخصوصية، والتأثيرات السلبية المحتملة للتكنولوجيا على الإنسانية.
أدت العولمة أيضا إلى زيادة التفاعل بين الثقافات المختلفة، وحدوث أكبر تدفق للاجئين في التاريخ، جعل هذا التفاعل أكثر شيوعا، ولكن في الوقت نفسه، تسبب هذا الوضع بزيادة إصابة بعض الأفراد بمخاوف من قبيل الزينوفوبيا (رهاب الأجانب). ومن ناحية أخرى، تسببت التحديات والتهديدات العالمية، مثل تغير المناخ والإرهاب والأوبئة في إثارة مخاوف واسعة النطاق لدى الشعوب. وعلى سبيل المثال، تقوم مجموعات معينة بنشر مخاوف من شأنها أن تغير الأجندة المطروحة كل يوم، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويعتبر هذا من أساليب الحرب النفسية بالكامل.
تخضع منطقتنا اليوم من دون شك لإعادة تصميم عبر الرُهابات أو المخاوف. فهناك من يحاول جعل الشعوب تعادي بعضها بعضا، كما يحاولون أن ينشروا العداوة والكراهية بين العرب والأتراك والأكراد في المنطقة. وفي بعض الأحيان يتم تقديم أمثلة ونماذج من التاريخ، وأحيانا من الهجمات العنصرية المتزايدة في الوقت الحاضر، وهناك جهد يبذل لتأليب الشعوب المسلمة ضد بعضها بعضا من خلال المخاوف، ولذلك، يجب على شعوبنا وسلطاتنا السياسية أن ترى المؤامرات التي يراد تنفيذها ضد منطقتنا عبر استخدام وإثارة هذه المخاوف.
خلاصة الكلام؛ تتطور المخاوف بالتوازي مع التغير السريع لدى بنية المجتمع في العصر الحديث. ومن المؤكد أن إدراك هذه المخاوف وفهم كيفية التعامل معها أمر بالغ الأهمية بالنسبة للأفراد، لكي يعيشوا حياة أكثر سلامة وأكثر توازنا. وينبغي أن تكون المهمة والمسؤولية الأكبر على عاتق مثقفينا وسياسينا في تحذير الشعوب من الأزمات التي ستثيرها الرُهابات، فضلا عن زيادة مستوى الوعي في هذا الصدد.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس