ترك برس
دخل مفهوم "القوة الناعمة" في أدبيات العلاقات الدولية منذ مطلع العقد الأول من القرن الـ21، وهو مفهوم بات مألوفاً لدينا جميعاً اليوم. ويُمكن تعريف القوة الناعمة اختصاراً بأنها قدرة الدول على استغلال قدراتها في قطاعات مثل التاريخ، والثقافة، والصحة، والفن، والرياضة، وغيرها من أجل خلق مجال تأثير يتجاوز حدودها. وتبحث القوى العالمية والإقليمية عن القوى الناعمة التي تقع ضمن نطاق قدراتها اليوم، وهو أمر ينبغي عليها فعله. لكن مجال تأثير القوة الناعمة سيظل محدوداً للغاية إذا لم تمتزج مع مفاهيم القوة الصلبة، مثل القوة العسكرية والاقتصادية. وقد تنوعت عناصر القوة الناعمة بشكلٍ كبير، وخاصةً مع انتشار الإنترنت بعد العقد الأول من القرن الجاري. ولا شك أن الأفلام والمسلسلات التلفزيونية الطويلة تُعَدُّ من أكثر تلك العناصر فعالية.
إذ تتمتع المسلسلات التلفزيونية الطويلة بمجال تأثير أوسع عند اعتبارها عنصراً من عناصر القوة الناعمة، لأنها تُعرض في حلقات وتستمر لوقتٍ أطول من الأفلام. علاوةً على أن المسلسلات التلفزيونية تحظى بميزانيات أكبر، وتُعد مناسبةً أكثر لاستراتيجية النشر على منصات الفيديو الرائجة اليوم. ولهذه الأسباب نجحت المسلسلات التلفزيونية الطويلة في التفوق على صناعة الأفلام المعاصرة. ويُستخدم مصطلح "دبلوماسية المسلسلات التلفزيونية" لوصف تأثير القوة الناعمة الناجم عن المسلسلات التلفزيونية. بينما يُمكن تعريف دبلوماسية المسلسلات التلفزيونية بأنها خلق مجال تأثير خارج البلاد بواسطة المسلسلات. ويرجع سبب ذلك إلى أن السرديات المفصلة في المسلسلات التلفزيونية الطويلة يمكن نقلها إلى الجمهور بطريقةٍ ستعلق في أذهانهم لوقتٍ طويل، وبهذا تستطيع دولة المنشأ أن تحقق في عامٍ واحد تأثيراً لم تكن ستحققه لو حاولت بالطريقة العادية لسنوات.
وتستطيع الدول إنشاء "عملية إدارة لعلامتها التجارية" من خلال المسلسلات الطويلة، عن طريق عرض ثقافتها وتاريخها وفنونها ومنتجاتها المرتبطة على الجمهور. ولهذا سنجد أن الحكومة تشارك في بعض عمليات الإنتاج الخاصة بقطاع المسلسلات التلفزيونية في بعض الدول، مثل كوريا الجنوبية. وبهذا تؤكد الدولة على التأثير الكوري الجنوبي عبر المسلسلات الطويلة، بل وتديره على بعض المستوتيات، لنحصل بذلك على تأثير "الموجة الكورية". لكن لا شك أن الدولة التي تركت بصمتها على صناعة المسلسلات التلفزيونية الطويلة في العقد الماضي هي تركيا؛ إذ إن هناك اليوم أكثر من 170 مسلسلاً تركياً يُعرض داخل أكثر من 150 دولة حول العالم. وتحل تركيا بهذه الأرقام في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث عدد المسلسلات التي يجري تصديرها للعالم. حيث جرى تصدير وعرض العديد من المسلسلات التركية في الخارج منذ عام 2005، ومنها: نور Gümüş، وحريم السلطان Muhteşem Yüzyıl، ووادي الذئاب Kurtlar Vadisi، والعشق الممنوع Aşk-ı Memnu، وقيامة أرطغرل Diriliş Ertuğrul، وعاصمة عبد الحميد Payitaht Abdulhamit.
ولنلقِ الآن نظرةً مقتضبة على أسباب نجاح تركيا في قطاع المسلسلات التلفزيونية ودبلوماسية المسلسلات الطويلة، وتداعيات ذلك النجاح.
أولاً وقبل كل شيء، يجب الإشارة إلى أن المسلسلات التركية الطويلة لم تكن معروفةً تقريباً ولم يسبق تصديرها للخارج قبل العقد الأول من القرن الجاري (مع بعض الاستثناءات البسيطة). وقد بدأت عملية تصدير المسلسلات التركية الطويلة في عام 2007، وتسارعت لتبلغ ذروتها بعد عام 2010، قبل أن تستمر خلال العقد الثاني من القرن الجاري. ولا عجب في أن مسلسلات مثل حريم السلطان، وقيامة أرطغرل، وعاصمة عبد الحميد كانت من أشهر صادرات المسلسلات الطويلة. ويُمكن القول إن "التسارع الثقافي" الذي شهدته تركيا في مطلع القرن الجاري قد بدأ يؤتي ثماره خلال العقد الثاني من هذا القرن. بينما ساهمت تطورات مثل الثقة بالنفس سياسياً، ودبلوماسياً، واقتصادياً، في تمهيد الطريق أمام ظهور تلك الأعمال الإنتاجية. ونستطيع القول بعبارةٍ أخرى إن قطاع المسلسلات التلفزيونية في تركيا لم تصنعه الدولة أو "تدخلاتها" كما كان الحال في كوريا الجنوبية، لكن النقلة التي عاشتها تركيا هي التي انعكست آثارها على هذا القطاع. وبناءً عليه، تطوّرت دبلوماسية المسلسلات التلفزيونية التركية كنتيجةٍ للدور الذي تلعبه البلاد في النظام العالمي.
وعندما ننظر إلى نتائج دبلوماسية المسلسلات التركية، سنجد أن تركيا حققت عدة مكاسب كبيرة من هذا القطاع على مختلف الأصعدة. فأولاً، تمثل مبيعات المسلسلات التلفزيونية مصدر دخل مباشر للبلاد؛ ففي عام 2022، وصل حجم مكاسب تصدير المسلسلات التركية إلى 650 مليون دولار إجمالاً. ويُعد هذا الرقم وحده كافياً للدلالة على الدور التركي الريادي في صناعة المسلسلات التلفزيونية.
وثانياً، تتمتع المسلسلات التلفزيونية التركية بتأثير مباشر على عائدات السياحة. حيث ترتفع الإحصاءات السياحية بفضل السياح الذين يرغبون في زيارة الأماكن، والقصور، والمتاحف، والطبيعة الخلابة التي يشاهدونها في المسلسلات. ونستطيع استنتاج ذلك ببساطةٍ إذا نظرنا إلى عدد السياح الذين يزورون البلاد قادمين من دول البلقان والشرق الأوسط وجنوب آسيا، وهي أكثر المناطق مشاهدةً للمسلسلات التركية. وليست هناك طريقة مباشرة لحساب ذلك التأثير بالطبع، أي تأثير المسلسلات الطويلة على عدد السياح. لكننا لن نستطيع إنكار تأثير المسلسلات على السياحة إذا نظرنا إلى الفارق بين أعداد السياح القادمين من تلك الدول قبل وبعد بدء تصدير المسلسلات التركية إليها.
ثالثاً، تحوّلت تركيا إلى علامة تجارية حقيقيةٍ في العالم من خلال مسلسلاتها التلفزيونية. وصارت تركيا معروفةً بثقافتها بين المجتمعات التي تعيش في البلدان الأخرى، القاصية منها والدانية. إذ بدأت تلك المجتمعات تتعلم الكلمات والحوارات التركية، وزاد الطلب على الطعام التركي، وصارت الثياب التركية تلفت الأنظار، بينما أصبح الأطفال الصغار يُمنحون أسماءً تركية الأصل. وفي دول أمريكا الجنوبية مثل تشيلي وباراغواي مثلاً، يحصل الأطفال حديثو الولادة على أسماء مثل "أونور خوان خوسيه"، و"شهرزاد فيرينيس"، و"ويلسون كمال"، و"سالفانو مصطفى". وعلى صعيد آخر، هناك زيادة ضخمة في أعداد الطلبات المقدمة إلى مؤسسات مثل معهد يونس إمره الذي يُدرّس اللغة التركية، لأن الناس يريدون تعلُّم لغة البلاد. وفي وضعٍ كهذا، أصبحت تركيا قادرةً في ظرف عامٍ أو عامين على تحقيق تأثيرات القوة الناعمة التي قد تعجز الدول الأخرى عن تحقيقها بعد سنوات من المحاولة.
وتؤكد تركيا على أنها مرشحة حقيقية لتكون قوة عالمية -وليست قوة إقليمية فحسب- من خلال صناعاتها الدفاعية والعسكرية وإنجازاتها الدبلوماسية وخطابها العالمي، ناهيك عن قدراتها على صعيد القوة الناعمة. وتُمثل المسلسلات التركية واحدةً من أهم عناصر تلك القدرة. وبالإضافة إلى منصات البث الرقمي الموجودة داخل تركيا بالفعل، أطلقت شبكة TRT التركية منصة رقمية جديدة تُدعى Tabii وتستهدف جمع مشاهدات عالمية. وتبث المنصة التركية محتواها باللغات التركية، والعربية، والأردية، والإسبانية، والإنجليزية من أجل الوصول إلى الجماهير داخل وخارج البلاد. كما تخطط المنصة لزيادة عدد اللغات المتاحة مستقبلاً. وتضمن شبكة TRT -بصفتها هيئة بث عامة- ألاّ يتعرض المشاهد لأي صور "خليعة، أو غير أخلاقية، أو منحطة ثقافياً". ومن المؤكد أن المنصة التركية تتميز عن منصات البث الرقمي الأخرى في هذا الصدد. ولن نكون مخطئين إذا قلنا إن تركيا ستحافظ على هذا الدور الريادي في قطاع المسلسلات التلفزيونية خلال السنوات المقبلة، وستقترب أكثر من تحقيق أهدافها كقوة عالمية من خلال دبلوماسية المسلسلات الدرامية.
**مقال تحليلي للكاتب أحمد إشجان، نشره موقع عربي بوست الإخباري.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!