د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
التقت مصالح أميركا والهند والمنظومة الأوروبية وإسرائيل وبعض الدول العربية، عند توقيع مذكرة تفاهم على هامش قمّة العشرين قبل أسبوعين، بهدف إنشاء ممرّ استراتيجي متعدد الأهداف والجوانب، يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.
ليس "الكوريدور" الهندي مشروع مصادفة ولد على هامش قمة العشرين في نيودلهي، كفكرة تخطر على بال بايدن في اللحظة الأخيرة. هناك طبخة أميركية تعد على نار هادئة لقلب الطاولة الصينية وتفتيت الإسمنت الروسي وبعثرت السياسات التركية في المنطقة.
تبحث واشنطن عن دفع الهند نحو الواجهة في مواجهة الصين. والتقريب بين الخليج وإسرائيل. وتضييق حركة المناورات الإقليمية الإيرانية. واسترداد ما فقدته من نقاط في الشرق الأوسط لصالح روسيا والصين. وإلزام الاتحاد الأوروبي بما تقوله تجاريا واقتصاديا هذه المرة بعد دفعه نحو التوقيع على بياض والتسليم بإدارة واشنطن عسكريا وسياسيا لملف الحرب ضد روسيا في أوكرانيا. وإضعاف فرص المشروع العراقي الإقليمي المنفتح على الصين وتركيا، لكن المتطلع صوب إيران والخليج وباكستان أيضا.
يتكون المشروع من ممرّين الممرّ الشرقي ويربط الهند بدول الخليج، والشمالي الذي يربط دول الخليج بأوروبا عبر الأردن وإسرائيل. تركيا تعترض على استبعادها عن الجزء الثاني من المشروع، رغم أنه لا أحد يتحدث عن استهداف تركيا أو محاولة عزلها في الممر الهندو – أميركي. الأصابع كلها موجهة نحو الصين وعرقلة تمددها الإستراتيجي عبر خط الحرير الجديد، وامتصاص ارتدادات الاجتماع الثالث المرتقب لمنتدى مبادرة الحزام والطريق.
حتى ولو لم يتطرق الحديث إلى تركيا فهي معنية بكل هذه المسائل التي تهدف لرسم خارطة تحالفات ومعادلات دولية وإقليمية جديدة. فواشنطن ستحاول تحريك الورقة الهندية لإبعاد تركيا عن روسيا من خلال هذا المشروع وبعدما عجزت عن فعل ذلك بعد فشل ورقة المقاتلة أف – 35. وستتطلع صوب إنهاء طموح تركيا في الجلوس أمام طاولة شرق المتوسط لنقل الغاز، وصناعة بدائل جديدة دون أنقرة قد يتم خلالها عرض تفاهمات إسرائيلية مصرية ترضي القاهرة وتقربها من المشروع الهندي.
من الممكن القول إن إرضاء أنقرة بعدم عرقلة المشروع هو بين الاحتمالات. لكن المشكلة هي أن المشروع "يكوّع" بعد قدومه من الخليج باتجاه الأردن وإسرائيل ثم قبرص اليونانية واليونان قاصدا عمق أوروبا. وهذا ما يغضب أنقرة ويدفعها للتصعيد.
صدمة القيادات السياسية التركية التي تطمح لتتصدر قلب المشاريع الإستراتيجية الإقليمية، لا تقل عن صدمة الهند بعد استبعادها عن مشروع الطريق والحرير الصيني الذي انطلق قبل عقد.
كنا نعتقد أن واشنطن تحاول كسب أنقرة إلى جانبها من خلال سحب دعمها لمشروع خط أنابيب "إيست ميد" لنقل الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا، فتبين أن الهدف الأميركي هو فتح الطريق أمام الخطة الجديدة عبر الهند لقلب كل المعادلات. سبب الانزعاج التركي هو احتمال ولادة ممرات تجارية وخدماتية ومشاريع استثمار على بعد مرمى حجر من تركيا، وهي خارج كل هذه المعادلات وبعيدة عن قواعد اللعب الجديدة.
ما يقلق تركيا هو الطريق التي سيفتحها المشروع أمام التأسيس لمعادلات إقليمية وشرق أوسطية جديدة لن يكون لها أي حصة أو دور فيها.
يعرف صانع القرار الأميركي أن الطريق الأسرع والأقل كلفة لحركة التجارة والطاقة بين آسيا وأوروبا هو الجسر البري والبحري التركي ومع ذلك يبرز الورقة الهندية في مواجهة أنقرة. لماذا يفعل ذلك؟
استبعاد تركيا مسألة متعمدة مقصودة من قبل واشنطن دينامو المشروع. ولن يكفي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يقول إنه بدون أنقرة لن تنجح الخطة. لأن عرقلة الطريق المرسوم بعيدا عن الحدود التركية، سيترك الأتراك وسط مواجهات أصعب وأعقد مما يعيشونه اليوم مع أميركا. واشنطن ستوحد الشركاء الجدد ضد تركيا كونها المعرقل وواضع العصي في دواليب عجلة النمو والاستثمارات والنهوض بالمنطقة والدفاع عن مصالحها وخياراتها. ولا يمكن لتركيا أن تراهن فقط على صعوبة تنفيذ المشروع بسبب كلفته ومدته الزمنية الطويلة وعدم مرونته الاستراتيجية. فهناك دول كثيرة قد تقبل بالعرض الأميركي الذي يأخذ بعين الاعتبار مصالحها.
تتدافع مشاريع وخطط ربط الطرق البرية والبحرية بين الدول والقارات منذ قرون. الامبراطوريات والدول القوية هي التي كانت وما زالت ترسم معالم هذه الطرق بحسب مصالحها وعلاقاتها وتحالفاتها. وبين الأهداف الأساسية الهيمنة على المعابر الإستراتيجية التجارية والعسكرية لأطول مدة ممكنة بانتظار ظهور وولادة وقدوم اللاعب البديل. لا معايير لخرائط محددة نهائية في هذه الجغرافيا السياسية الواسعة. من يرسم شكل ذلك هو من يملك القوة والقدرات والطاقات والوزن السياسي القادر على المنافسة أو المواجهة المباشرة عند اللزوم. هذا ما حدث مع الامبراطوريات في أوروبا وآسيا لإدارة المشهد داخل مناطق نفوذها وخارجه بانتظار قدوم اللاعب الأميركي والروسي والصيني. بقدر ما كانت الاكتشافات والوصول إلى الثروات حيثما هي مسألة مهمة، بقدر ما أصبح التطور والتحديث والتصنيع والهيمنة اللغوية والثقافية بين الأوراق الملعوبة لتجيير كل ذلك إلى فرص ومواقع مواجهة وهيمنة سياسية وعسكرية واقتصادية.
من اللاعب الأوروبي إلى العثماني والروسي ثم الأميركي والصيني لنصل إلى الصوت الهندي الذي يرتفع مستعينا بمكبر الصوت الأميركي. تراجع قوى ومحاور لصالح أخرى أوصلنا إلى الثنائية القطبية الأميركية والروسية، ثم التمدد الصيني وانتفاضة الهندي تحت غطاء التعددية القطبية. كل متر أو ميل بحري أو عمق أرضي مهم اليوم في لعبة المعادلات والتوازنات الإقليمية والدولية الجديدة. وكان آخرها الإعلان على هامش قمة الدول العشرين في نيودلهي عن ممر الهند – الشرق الأوسط – أوروبا برعاية وإشراف أميركي.
تتطلع واشنطن صوب العودة الاستراتيجية إلى المنطقة بعد تراجع نفوذها لصالح الصين وروسيا في أكثر من ملف. الهند قد تكون الورقة الرابحة لكن ذلك لن يكفيها. عليها إقناع العديد من العواصم العربية بما تقول وعليها الجمع بين مصالح الدول العربية وإسرائيل وقبرص اليونانية واليونان في سلة واحدة وهي مهمة لن تكون سهلة.
الكرة في ملعب بكين وموسكو وأنقرة وطهران أيضا للرد على المناورة الاستراتيجية الأميركية الهادفة لتوزيع النفوذ والأدوار والتحاصص الإقليمي الجديد. فأين وكيف سيتم ذلك؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس