ترك برس
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلًا * وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
لا يزال تأثير عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حماس صباح يوم السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 قويًّا ليس فقط في إسرائيل، بل في العالم أجمع. قوات عز الدين القسام تسللت وتوغلت في إسرائيل من 22 نقطة مختلفة، وألحقت بها هزيمة غير مسبوقة. حسبما صرح به المتحدث باسم حماس، فإن هذا الحدث جعل العالم بأسره يترقب الأحداث بدون قدرة على التدخل.
في الواقع، تأثير هذا الصدمة على العالم يشبه قصة “التحول” لفرانز كافكا، حيث استيقظ بطل الرواية “جريجور سامسا” صباحًا ليجد نفسه تحول إلى حشرة ضخمة. وكذلك سيجد الأشخاص هذه المرة، ليسوا أنفسهم فقط قد تغيرت، بل سيجدون الكيان الإسرائيلي المحتل الذي كان يعتبر عملاقًا في الحرب والتكنولوجيا والاستخبارات والقوة، قد تحول بالكامل إلى نمر من ورق. وبالطبع، سيؤثر هذا التحول أيضًا في وجهات نظر الناس بمناطق مختلفة من العالم.
فقد تمكنت قوات القسام في غضون دقائق من اختراق جدران وأسوار وخنادق أمنية إسرائيلية كانت يتم التسويق لها على أنها غير قابلة للاختراق، حيث لم يكن لأحد أن يتمكن من دخول الأراضي المحتلة دون اتباع ضوابط صارمة والحصول على موافقات أمنية صعبة للغاية. وقد تم تداول صور لجنود الكتائب والمتطوعين الفلسطينيين وهم يتجولون في المستوطنات، في حين فر الجنود الإسرائيليون والمستوطنون أمامهم مذعورين.
استسلمت إسرائيل، التي تُسوِّق لقوتها واستخباراتها ومهاراتها الحربية على أنها آلة الرعب في جميع أنحاء المنطقة منذ تأسيسها، وكذلك استسلمت التكنولوجيا التي تتباهى بها أمام أسلحة المقاومة الفلسطينية. وبالطبع، ليس فقط الأسلحة نفسها هي السبب، وإنما أيضًا الإيمان الذي لا ينحني لقوة الاحتلال وتقنياته وسلوكه الاستعماري الذي حاصر الرجال والنساء والأطفال والإنسانية مدة 16 عامًا في قطاع غزة وأهان معتقداتهم وقيمهم المقدسة، ولم يكن يسمح بدخول غرام واحد غير مصرح به من الخبز أو الدواء أو أي إمدادات أخرى. ولذلك لم ينل منهم ولم ير في عيونهم إلا تصميمًا على المقاومة ورفضًا للاستسلام. وكان هذا التصميم دائما كابوسا للاحتلال وهذه الأيام قد تحقق ذلك الكابوس رأي العين.
وفي الواقع، كان هدف حماس وإستراتيجيتها السياسية استمرارية هذه المقاومة، وهي منظمة مسلحة بالإيمان والعقيدة مع العقلانية وضبط النفس وحسن تدبير الأمور بنفس القدر، ولذلك كانت استجابتها للصهيونية والأفعال الاستفزازية تأتي على حسب قوتها الخاصة. نعم، كما هو معلوم بدأت الانتفاضة بالحجارة التي كانت كل ما لديهم، لكن هذا لم يعن أبدًا أنهم سيكونون راضين بما لديهم. وتمامًا كما ضرب داود عليه السلام جالوت في عينه وبقوة، فقد عملت حماس بشكل جيد للغاية في تطوير التقنية والقوة للتصويب إلى عين إسرائيل وإصابتها.
ففي عام 2021 أوضحت حماس كثيرًا أن لديها القدرة على تحويل القبة الحديدية الإسرائيلية الأسطورية إلى مجرد مصفاة. وفي الواقع، كانت حماس تحذر إسرائيل منذ ذلك الحين من أن قدرتها على التصدي وبراعتها ليست مجرد كلام أو خدعة وأنها مستعدة لفعل الكثير للفلسطينيين وللمقدسات إذا لم يتوقف جنود الاحتلال عن تصرفاتهم الاستفزازية.
وعلى مدار سنوات وحتى قبل اندلاع عملية طوفان الأقصى كانت جميع أفعال حماس تمثل انتقامًا غير متكافئ، وردًّا على الهجمات الإسرائيلية. ومع طوفان الأقصى أخذت المقاومة زمام المبادرة لأول مرة وهاجمت إسرائيل. وأظهرت لقوات الاحتلال الكابوس الذي تعيشه غزة كل ليلة طوال سنوات الحصار والقصف.
نعم في الحقيقة، وعلى الرغم من كل الضوضاء، هذا هو ملخص الحدث. رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية وأصدقاء إسرائيل أصبحوا فجأة يتحدثون بلغة: “إسرائيل المسكينة مقابل هجمات حماس البربرية”، فإن حقيقة الأمر هي أنه لأول مرة، تعيش إسرائيل بعضًا مما ذاقه الشعب الفلسطيني على مدار سنوات.
إن سكان غزة الذين يرزحون تحت الحصار منذ 16 عامًا، محرومون من أبسط حقوقهم في معيشية إنسانية، في حين يقوم المستوطنون الصهاينة الذين جاؤوا من كل مكان في العالم وراء آلاف الوعود الخادعة، باستيطان منازل الأسر الفلسطينية وأراضيها وحقولها في الأراضي المحتلة، ويواجه الفلسطينيون الذين يقاومون ذلك الاستيطان كل أنواع الظلم والإذلال.
وبدلًا من بناء سياج أمني حول المستوطنات لحماية المستوطنين، تم بناء أسوار أمنية حول الأحياء الفلسطينية المحيطة بها، مما جعل تلك الأحياء بمثابة سجن مفتوح للفلسطينيين الذين يقاسون ظروفا شديدة الصعوبة حيث يعانون من ساعات الانتظار عند نقاط التفتيش المقامة بين شارعين حين يريدون المرور فقط من أجل الانتقال من منزلهم إلى منزل جارهم.
كما أن جنود الاحتلال يمكنهم تنفيذ أي عمليات ضد الفلسطينيين وقتما يشاؤون. ولذلك يتعرض على الأقل فلسطيني أو فلسطينيان في المتوسط كل يوم للقتل بنيران عشوائية يطلقها الاحتلال على أولئك الذين يقاومون العنف الاستيطاني، إضافة إلى اعتقال عشرات الفلسطينيين في كل مرة خلال الصراعات التي لا تكاد تتوقف.
ومن جانب آخر فإن هناك أيضا هجمات إسرائيلية مستمرة على المسجد الأقصى. وبهذه الهجمات تجاهل الإسرائيليون المقدسات الإسلامية وجعلوا تدريجيًّا مسألة احتلال المسجد الأقصى أمرًا واقعًا. وبتشجيع من ترامب حاولوا تجاهل المقاومة الإسلامية أمامهم من أجل إكمال هذا الوضع الفعلي وفرض سياسة الأمر الواقع، إذ لم تعترف إسرائيل أو تنفذ أيًّا من قرارات الأمم المتحدة؛ لأنها كانت تعتقد أن لديها قوة وأن قوتها كانت كافية للظلم واستمرار الاستيطان، كما أنه لا توجد قوة للتصدي لها وإيقافها. ونتيجة لذلك أصبح الاحتلال مدلّلًا وأكثر تهوُّرًا.
ومن ناحية أخرى فإن أسوأ شيء هو أن بعض الدول الإسلامية أيضًا تُسوِّق لهذه القوة وتؤمن بها. ففي السنوات الأخيرة وتحت ستار “التطبيع”، زادت العلاقات الجديدة بين الدول الإسلامية وإسرائيل، حتى وصلت إلى مستوى عال من الولاء والإيمان بأسطورة أن إسرائيل قوة مهيمنة لا تُقهر. وربما لا يدركون أنه كلما استمروا في فعل أكثر، فإنهم يُغذون تلك الأسطورة.
يسلط النظام العالمي الحالي الضوء على الحقيقة الواضحة: لا يكفي أن تكون على حق على أي حال، حتى لو كنت على حق من الأرض إلى السماء. فذلك لا ينقذك من التعرض للظلم؛ لأن إثبات أنك على حق لا يكون فقط عن طريق الدعاوى القضائية والملفات، بل لا بد أن يكون لديك أيضا القوة التي ستحصل بها على حقك بنفسك عند الضرورة.
وفي “ناغورني كاراباخ” انتظرت أذربيجان عبثًا سنوات كي يؤكد المجتمع الدولي أن الأراضي المحتلة تابعة لها، وبالتالي يعيدها إليها، ولم يحدث شيء حتى تمكنت من جمع قوتها، وأظهرت أنها كانت على حق بقوتها الخاصة وحصلت على حقها.
ولذلك حتى لو تم تأكيد احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية من قِبل الأمم المتحدة، بل ومن المجتمع الدولي بأسره، فلا أحد يجرؤ على مواجهة إسرائيل والمطالبة بحقوق الفلسطينيين. ولذلك كان على المسلمين الفلسطينيين أن يُظهروا قوتهم من أجل الحصول على حقوقهم في القضية التي كانوا أصحاب الحق فيها، وقد فعلوا ذلك.
والآن ليس فقط إسرائيل، ولكن العالم كله سيكون بالتأكيد عالمًا مختلفًا تمامًا بعد أحداث 7 أكتوبر 2023، وستكون لذلك آثار بعيدة المدى، وبالطبع سنواصل جميعًا المراقبة.
وَالصِدقُ يَألَفُهُ الكَريمُ المُرتَجى * وَالكِذبُ يَألَفَهُ الدَنِيءُ الأَخيَبُ
وبالنسبة للتأثير الأوّلي لهذه الأحداث في الداخل التركي فإنها قد كشفت حقيقة من يُسموننا عشاق العرب وهي أنهم عشاق إسرائيل. نعم، فالنتيجة التي أظهرتها عملية حماس، هي أن أولئك الذين يسخرون منا في المناقشات الأخيرة ومعاداتهم للأجانب هم جميعا “عشاق إسرائيل”، كما اتضح أن عداءهم للسوريين واللاجئين والعرب هو بدافع حبهم لإسرائيل. وليس من قبيل المصادفة أن تتحد الجماعات العنصرية الكردية والعنصرية التركية في حبها لإسرائيل ومعارضتها لحماس. وهكذا سقط كثير من الأقنعة.
وكما قلتُ سابقًا: ماذا يمكن أن نرى في الأيام القادمة؟ سنرى بالتأكيد أن هذا الحدث هو بداية لتغييرات كبيرة جدًّا في المنطقة والعالم بأسره.
**مقال تحليلي للنائب السابق في حزب العدالة والتنمية الحاكم بتركيا ياسين أقطاي، نشره موقع الجزيرة مباشر..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!