ترك برس
في تهديده لقطاع غزة الذي احتوى على أوامر بارتكاب جريمة حرب بحق القطاع بعد عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها “حماس” وفصائل المقاومة الفلسطينية في 7 من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، توعّد رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، بأن الرد “سيغيّر الشرق الأوسط”.
وقال خلال اتصاله مع رؤساء المجالس المحلية الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة -التي نفّذت “حماس” الهجوم تجاهها: “نحن بالفعل في الحملة (العسكرية) وقد بدأناها للتوّ، قيادتكم قوية جداً في هذه الأيام الصعبة (…) أطلب منكم أن تقفوا بثبات لأنّنا سنغيِّر الشرق الأوسط”.
إنّ عبارة “الرد سيغيِّر الشرق الأوسط” تحمل كثيراً من الغرور والصلف من جهة، كما تحمل كثيراً من الرغبة في الاستمرار بالعمل حتى السيطرة التامة على منطقة الشرق الأوسط، حيث ترى إسرائيل وقيادتها أنّها لا بدّ أن تقود المنطقة وتتحكم فيها كيفما تشاء، وهذا كان في الأصل أحد الأسباب الرئيسية لإنشاء “دولة إسرائيل” ودعمها من القوى العالمية الكبرى.
إنّ تغيير الشرق الأوسط هو لعبة كبرى بدأتها القوى الكبرى بعد انتهاء فترة الدولة العثمانية، التي تولّاها في البداية الإنجليز، ثم دخل معهم الفرنسيون والإيطاليون بدرجة أقل، بعد الحرب العالمية الأولى، وتبنته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وبهذا التصريح يؤكد الاحتلال الإسرائيلي أنّه جزء لا يتجزأ من مشروع التغيير المستمر.
في البداية، لا بدّ أن نشير إلى موقع إسرائيل في قلب الشرق الأوسط الذي اختير بعناية لتكون امتداداً لقوى الاستعمار التقليدية في العالم، حيث دُعم وجودها في فلسطين بين قارتَي آسيا وإفريقيا وعلى البحرين المتوسط والأحمر، من خلال اتفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور.
ودُعمت إسرائيل كـ”دولة احتلال” من القوى الغربية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا، من أجل تقسيم الشرق الأوسط جيوسياسياً والحفاظ على مصالح القوى الغربية وتأمين إمدادات الطاقة، وحرصت هذه القوى على الحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها على المنطقة ومارست في سبيل ذلك كل ما يمكن من ضغوط على دول الشرق الأوسط.
وجود إسرائيل وحرمان الفلسطينيين إقامة دولتهم -رغم كل الحقوق والمواثيق الدولية التي تطلب من الاحتلال السماح بقيام دولة فلسطينية- أدّى إلى إبقاء أسباب زعزعة استقرار الشرق الأوسط قائمة.
إنّ وجود الاحتلال فتح على المنطقة أول بوابة للحروب، ابتداءً من حرب 1948 وحرب 1967 وحرب أكتوبر 1973، مروراً باجتياح لبنان في 1982 والانتفاضات الأولى في 1987 والثانية في 2000، والحروب على غزة في أعوام 2008 و2012 و2014 و2021، وصولاً إلى الحرب الحالية على قطاع غزة، إذ كانت إسرائيل هي المحرك الأساسي للحروب في منطقة الشرق الأوسط، وفي كل هذه الحروب كانت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تقف خلف الاحتلال الإسرائيلي وتمدّه بكل أنواع الدعم السياسي والمالي والعسكري والإعلامي.
لقد قال نتنياهو تصريحه حول “تغيير الشرق الأوسط” هذه المرة مستنداً إلى وقوف الغرب مرة أخرى خلفه بقيادة الولايات المتحدة، وأنّه مستعدّ لتغيير الموازين، وبالفعل كان الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حاضراً بسرعة وبموقف علني حازم، إذ أعلن وقوف بلاده مع إسرائيل وتقديم الدعم غير المشروط، ووجّه رسالة لكل قوى الشرق الأوسط الفاعلة بعدم القيام بأي أمرٍ من شأنه أن يعيق السياسة والرد الإسرائيلي.
عملت إسرائيل على تغيير بنية الشرق الأوسط لصالحها من خلال “مشروع الشرق الأوسط الكبير” في بداية عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، وعملت على الاستفادة من الصراعات في المنطقة قبل الربيع العربي وبعده، واستغلت احتياجات الأنظمة العربية لتفرض عليها اتفاقيات مجحفة تتجاوز القضية الفلسطينية بل تسهم في تصفيتها من خلال “صفقة القرن” و”اتفاقيات إبراهام” التي بدأها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، وواصلتها إدارة بايدن.
رغم رغبة كل دول المنطقة في قيام دولة فلسطينية والالتزام بحق الشعب الفلسطيني، استغلت إسرائيل رعاية الولايات المتحدة اتفاقيات التسوية منذ عام 1993، وظلت تفرض الحقائق على الأرض من دون أدنى مراعاة لحقوق الفلسطينيين، واستغلت دعم الولايات المتحدة لها للضغط على دول المنطقة لتغيير مواقفها وإدماج إسرائيل في المنطقة ككيان شرعي وكجزء لا يتجزأ من المنطقة من دون إعطاء أي حق للفلسطينيين.
إنّ تصريح نتنياهو حول تغيير الشرق الأوسط يقول علناً إنّ إسرائيل تنتقل من مرحلة الاندماج مع الشرق الأوسط كمكون فيه، إلى مرحلة القدرة على تشكيل الشرق الأوسط وتغيير ملامحه لصالحها، وإعادة فكه وتركيبه تحت قيادتها وهذا تصريح ومسار خطير يكشف النيات الحقيقية لدولة الاحتلال.
على قدر خطورة التصريح الذي أدلى به نتنياهو الذي يجب أن تدركه دول المنطقة، لأنّه سيكون بلا شك على حسابها، فالأهم أنّ التصريح يتناقض مع الحالة التي يعيشها العالم الغربي الذي بدأ يفقد هيمنته على النظام العالمي مقابل صعود قوى كبرى أخرى على رأسها الصين خصوصاً في المجال الاقتصادي، وكذلك روسيا في المجال العسكري في ظل الحرب الروسية-الأوكرانية التي تعد حرب استنزافٍ للعالم الغربي، وفي ظل التحولات التي تعيشها أيضاً إفريقيا ضدّ فرنسا.
لهذا، وفي ظل رغبة الولايات المتحدة في تهدئة المنطقة وتركيزها على المواجهة مع الصين وروسيا، هناك سؤال مهم، وهو: إلى أي مدى ستقف الولايات المتحدة خلف هذا المشروع؟ وإلى أي مدى ستكون إسرائيل معزولة في حال وقوع أي تطور دراماتيكي على قوة هذه الأطراف الداعمة لها؟
من زاوية أخرى، قد يكون نتنياهو يقصد بهذا التصريح تهديد إيران وحلفائها لمنعها من التدخل لصالح المقاومة الفلسطينية، وردعها عن القيام بأي شيء، وهو ما تنسجم معه تصريحات بايدن وتحذيراته لدول المنطقة من استغلال الأحداث الجارية.
على كل حال، تعدّ القضية الفلسطينية والقدس قلب الشرق الأوسط وروحه عبر التاريخ، وقد كان وجود إسرائيل أساساً التغيير الأكبر في الشرق الأوسط منذ أكثر من 70 عاماً، وأي تغيير تريده إسرائيل بالتأكيد لن يكون إيجابياً على استقرار المنطقة، بل على العكس، فالتغيير الحقيقي الذي لا بدّ أن تدفع إليه دول المنطقة هو ردع نتنياهو عن تهديد المنطقة والسعي لقيادتها وإرغامه على إعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وإلا لن تشهد المنطقة إلا مزيداً من عدم الاستقرار.
**مقال تحليلي للكاتب محمود سمير الرنتيسي، نشره مركز سيتا التركي للدراسات والأبحاث..
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس