محمود علوش - ديلي صباح
لا ينبغي أن تكون الانتقادات الحادة التي وجهها الرئيس رجب طيب أردوغان لإسرائيل في مهرجان إسطنبول الكبير الداعم للفلسطينيين مفاجئة لأحد أو غير متوقعة بالنسبة للبعض لأنّه، وقبل الدخول في دوافعها وتداعياتها على العلاقات التركية الإسرائيلية، فهي تنسجم مع الموقف التقليدي لتركيا إزاء القضية الفلسطينية ومع حقيقة أن الجرائم البشعة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، تستوجب عدم التردد للحظة في إصدار مثل هذه المواقف بغض النظر عن تكاليفها.
ومن كان يعتقد أن أردوغان سيكون أكثر حذراً في انتقاد إسرائيل بشدة هذه المرة بسبب الوضع الجديد في العلاقات التركية الإسرائيلية بعد إعادة إصلاحها مؤخراً، فإما أنّه يجعل ما تعنيه القضية الفلسطينية في الوجدان الشخصي لأردوغان أو في وجدان تركيا كدولة وشعب وأحزاب سياسية على اختلافها، أو أنه توهّم أن رغبة تركيا في إصلاح علاقاتها مع الغرب ومساعيها لجذب الاستثمارات الأجنبية ستدفعها إلى تجنب أي تصعيد مع إسرائيل لعدم استفزاز الغرب أو كليهما معاً. حقيقة أن تركيا تنظر إلى الحرب الراهنة على أنها مختلفة جذرياً عن أي حروب سابقة شنتها إسرائيل على قطاع غزة وقد تؤدي إلى حرب كبرى في المنطقة أو إلى سلام كبير، كما قال وزير خارجيتها هاكان فيدان، تدفعها إلى وضع مقاربة عامة للوضع في الشرق الأوسط تتجاوز الحسابات الضيقة في العلاقة مع إسرائيل وترتكز على دورها كقوة استقرار فاعلة في الشرق الأوسط.
لا يُخفى أن تركيا سعت منذ بداية الحرب إلى تبني نهج يوازن بين رفض منطق الحرب بحد ذاته وبين محاولة لعب دور يُمكن أن يُساعد في تهدئة حدّة الصراع وتجنيب الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والشرق الأوسط فصولاً جديدة من المآسي. ولا يُمكن تفسير تصاعد حدة الانتقاد التركي للحرب الإسرائيلية الهمجية على الشعب الفلسطيني في غزة على أنّه تخلي عن هذا النهج. إن تعزيز فرص السلام يستدعي تبني خطاب قوي رافض لمنطق الحرب حتى لو ظهر في بعض الأحيان على أنّه تخلي عن نهج الدبلوماسية. وفي حالة إسرائيل تحديداً وحربها الحالية، فإن هذا الخطاب يُصبح أكثر حاجة. لأن القادة الإسرائيليون يعتقدون أن الدعم الغربي المُطلق لهم يُشكل غطاءًا لهم لمواصلة ارتكاب الجرائم في قطاع غزة دون أي عواقب ولأن دول المنطقة ستكون حذرة في تحدي الإرادة الإسرائيلية والأمريكية، فإن رفع سقف الخطاب الرافض للحرب إلى إدانة شديدة لإسرائيل وللسياسات الغربية في الصراع خصوصاً من جانب الدول الوازنة في المنطقة مثل تركيا، يًصبح مُكملاّ للدبلوماسية التي تبدو وحدها ضعيفة في الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة لتجنب المزيد من التصعيد. إذا كانت الولايات المتحدة، البعيدة عن هذه المنطقة بأميال، لا تُفكر سوى بكيفية مساعدة إسرائيل على إعادة ترميم مفهوم الردع عليها بغض النظر عن التكاليف الباهظة على حياة الفلسطينيين وعلى الأمن والاستقرار الإقليمي، فإن الفلسطينيين والإسرائيليين والمنطقة بأسرها وحدهم من سيدفعون الثمن الأكبر لهذه الحرب.
عندما تفشل الولايات المتحدة والغرب في التصرف بمسؤولية شديدة في هذا الصراع ولعب دور مُساعد في تهدئته ويُعالج المظالم الفلسطينية التاريخية مع الاحتلال الإسرائيلي، والتي هي السبب الأعمق لاشتعال هذه الحرب، فإن المسؤوليات على القوى الفاعلة في المنطقة مثل تركيا تُصبح مضاعفة للعب هذا الدور. لقد أظهرت هذه الحرب حقيقة مهمة وهي أن المنطقة سيتعين عليها من الآن وصاعداً الاعتماد على نفسها بقدر أكبر في إدارة شؤونها والتصرف بمسؤولية لوقف هذه الحرب لأن واشنطن تفقد بشكل متزايد قدرتها على التصرف كقوة عالمية مُهيمنة في الجغرافيا السياسية الإقليمية ولا تزال تنظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منظور إسرائيلي فقط. لذلك، لم يكن مستغرباً أن يُركز أردوغان قدراً كبيراً من موقفه في الحرب على انتقاد الولايات المتحدة، التي تُريد تحويل هذه الحرب إلى فرصة للعودة القوية إلى الشرق الأوسط من أجل تأكيد حضورها السياسي العسكري. بالنسبة لتركيا، فقد أدركت منذ عقود طويلة وبالتحديد بعد الغزو الأمريكي للعراق، أن سياسات واشنطن في المنطقة تعمل على تعميق أزماتها وصراعاتها، وبالتالي، فإنها أصبحت تتعامل مع الوجود الأمريكي في المنطقة على أنّه عامل غير مُساعد في إيجاد حل نهائي وشامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وفي تحقيق الاستقرار الإقليمي.
إن الرسائل الواضحة التي أطلقها أردوغان في مهرجان إسطنبول الكبير لإسرائيل والغرب ودول المنطقة يجب أن تُقرأ بعناية جيدة لأنّها السبيل الوحيد لإخراج الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والشرق الأوسط من المأزق الخطير الذي دخلاه بعد الحرب. وترتكز هذه الرسائل على ثلاثة اتجاهات: الأول أن الطريقة الوحيدة لإنهاء هذه الحرب هي تحويلها إلى فرصة لتحقيق سلام تاريخي بين الفلسطينيين والإسرائيليين يُحقق للشعب الفلسطيني طموحه المشروع ببناء دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967. والثانية أن الغرب لم يعد يملك المشروعية السياسية والأخلاقية في إدارته للصراع وأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على التصرّف كما لو أنها قوة عالمية مُهيمنة في الشرق الأوسط. والثالث أن التكامل الإقليمي أصبح حاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى لعكس المسار الخطير في المنطقة وإدارتها بشكل ذاتي.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس