د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس
في 13 رمضان من عام 15ه، وصل أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) إلى القدس، بعد أن خاض معارك المسلمون معارك ضارية ضد الرومان في بلاد الشام (أجنادين واليرموك)، واستطاعوا بفضل الله وتوفيقه، وهمتهم الجهادية تخليص الديار المباركة في فلسطين والشام من ظلم الرومان، واستلام مفاتيح القدس، وكتب الخليفة الفاروق لأهل القدس (إيلياء آنذاك) الوثيقة المشهورة بــ "العهدة العُمرية"؛ يؤمنهم فيها على أرواحهم وأنفسهم وأموالهم. واعتبرت العُهدة العمرية، شهادة حقٍّ بأنَّ الإِسلام دين تسامحٍ وتعايش ورحمةٍ، وليس دين إِكراهٍ، وهو شاهدُ عدلٍ بأنَّ المسلمين عاملوا النَّصارى الموجودين في القدس معاملةً لم تخطر على بالهم البتة. وكان الفاروق يستطيع وهو الفاتح والمنتصر أن يفرض على النصارى فيها ما يشاء، وأن يُجبرهم على ما يريد، ولكنَّه لم يفعل؛ لأنَّه كان يمثِّل قيم الإِسلام، والإِسلام لا يُكره أحداً على الدُّخول فيه، ولا يقبل من أحدٍ إِيماناً إِلا عن طواعيةٍ، فالإِيمانَ بالله ليس شيئاً يُجبر عليه النَّاس؛ لأنَّه مِنْ عمل القلوب، والقلوب لا يعلم مُخبّآتها إِلا الله سبحانه وتعالى.
كان الفتح العُمري للقدس عام 15 ه/636م، من فتوح الإسلام العظيمة التي لا يمحو ذِكره تعاقب الأيام، نظراً للمكانة التاريخية والدينية لهذا الموضع في قلوب المسلمين، وقيمة المسجد الأقصى عظيمة، فهو قبلة الأنبياء وقبلة المسلمين الأولى، وثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها. وهو مبدأ معراج خاتم النبيين والمرسلين محمد ﷺ إلى السماء السابعة، قال تعالى:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(١)﴾ [الإسراء: 1].
وقد باشر الفاروق (رضي الله عنه) أعمال التنظيف والبناء والتنظيم والترتيب في الصخرة المشرّفة، وساحة المسجد الأقصى، فبنى المصلى في المسجد الأقصى بعيداً عن موضع الصخرة التي بُنيت عليها القبة فيما بعد (جنوبي المسجد)، ولم يكن وجود أثر الحائط أو السور في عهده، وقد كان المسجد الأقصى في زمن احتلال الرومان لبلاد الشام والقدس، مكاناً مهجوراً، ومليئاً بالأوساخ والقذارات، فأحيا المسلمون بقيادة الخليفة الفاروق المسجد، ورمموه، وأقاموا أول صلاة فيه.
فرش الخليفة الفاروق عمر (رضي الله عنه) عباءته، وأخذ ينقل القمامة الرومانية من مكان المسجد الأقصى، ويُلقيها في الأودية خارج المساكن، واِقتدى به قادة جيش المسلمين، والجند الفاتحين، حيث وفد مع الخليفة عمر عدد من الصحابة الكرام، منهم أبو عبيدة عامر بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وأبو ذر الغفاري (رضوان الله عليهم)، حتى طهَّروه تطهيراً، وبنى عليه مسجداً، وأعاد الفاروق (رضي الله عنه) الدور التعبدي والروحي والحضاري للأقصى، كامتداد طبيعي لمكانته ودوره في عهود الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) في حمل الرسالة الإسلامية القائمة على توحيد الله، وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له.
لقد كانت أول صلاة للمسلمين في المسجد الأقصى في العهد الراشدي العُمري، فقد صلى عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بالمسلمين ركعتين؛ قرأ في الركعة الأولى سورة ص التي ذكر فيها داود (عليه السلام)، وقرأ في الركعة الثانية سورة الإسراء، تعظيماً لهذا المكان، وكان بلال رضي الله عنه هو المؤذن لتلك الصلاة. وفي الزيارة العُمرية، أعلن أمير المؤمنين الفاروق، بأن المسجد الأقصى من الأوقاف الأبدية على أمة الإسلام، إذ كانت فكرته حكمةً ألهمه الله إياها، تتجلى في قوله لسعد بن أبي وقاص بعد أن فتح العراق، وقد جاء في تاريخ دمشق لابن عساكر: "إنك إن قسمتَها بينهم (أيّ الجيش والجند) لم يبق لمن يأتي بعدهم شيء!"، وهذا ما أكّده الخلفاء بعد عمر، وعلى نهجه ساروا مدركين ما يرمي إليه عمر (رضي الله عنه) بهذا الفعل، الذي تتجلى فيه عبقريّته التي وهبه الله إياها؛ إنها إعلان واضح، وتصريح أكيد، أن هذه الأرض ستبقى ملكاً لعامة المسلمين على مرّ الأزمان، وقد تجلى هذا المعنى الدقيق في قول الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه): "تلك أرضٌ أوقفها أوّلُ المسلمين على آخرهم، فليس لأحد أن يتموّلها دونهم" (تاريخ دمشق، 2/ 200).
ومع تعاقب الحكم الإسلامي على القدس، تنافس المسلمون في عمارة وترميم وتوسعة المسجد الأقصى، وفي أيام الدولة الأموية، قام الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بتجديد بنائه، وتوسعته، وأكمله ابنه الوليد بن عبد الملك ما بدأه في سنة 72ه، ولم يكن يومئذ على وجه الأرض بناءٌ أحسن ولا أبهى من المسجد الأقصى وقبة الصخرة في القدس. إذ ينقل صاحب الأنس الجليل عن القُرطبي، قوله: "... كان فيه من العُمُد ستمائة عموم من الرخام وفيه من المحاريب سبعة ومن السلاسل للقناديل أربعمائة سلسلة إلا خمس عشرة، وفيها مائتا سلسلة وثلاثون سلسلة في المسجد الأقصى، والباقي في قبة الصخرة الشريفة وذرع السلاسل أربع آلاف ذراع ووزنها ثلاثة وأربعون ألف رطل بالشامي، وفيه من القناديل خمسة آلاف قنديل وعلى سطح المسجد من شقف الرصاص سبعة آلاف شقفة وسبعمائة ووزن الشقفة سبعون رطلاً بالشامي غير الذي على قبة الصخرة".
ويضيف: "... ورتّب له من الخدم القوام ثلاثمائة خادم اشتريت له من خمس بيت المال كلما مات واحد قام مكانه ولده أو ولد ولده أو من أهلهم يجري عليهم ذلك أبداً ما تناسلوا، وفيه من الصهاريج أربعة وعشرون صهريجاً كباراً وفيه من المنابر أربعة، ثلاثة منها صف واحد غربي المسجد وواحد على باب الأسباط.."، وتولى بناء قبة الصخرة والمسجد الأقصى القاضي رجاء بن حيوة، وأوقف على نفقتها خراج الكنانة (مصر) لسبع سنين.
تهدم المسجد الأقصى في زلزال سنة 130ه /747م (أواخر العهد الأموي)، فأعاد بناءه الخليفة العباسي المنصور سنة 140ه/ 756م، بعد أن اقتلع الذهب عن أبوابه، وضربت دنانير ودراهم للإنفاق على بناء المسجد من جديد، وفي العهد العباسي، وتحديداً في عام 158ه/ 774م، تهدم البناء الذي أقامه المنصور بسبب زلزال آخر، فأمر الخليفة المهدي العباسي بإعادة بنائه، فبنى المسجد بعناية كبيرة، وأُنفقت عليه أموال طائلة، وأَعطى المسجد صورته وحجمه الحالي، ومع ذلك فلم يدم طويلاً، وتهدم في زلزال وقع أول القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، فأمر المأمون العباسي بتوزيع مهام وتكاليف بنائه على ولايات الأطراف وسائر القادة، وقام بالبناء قائده عبد الله بن ظاهر سنة 424ه/ 1033م. وفي زمن الدولة الفاطمية أُعيد بناؤه على يد الخليفة الفاطمي الظاهر لإعزاز دين الله، وقد ذهب جزء كبير من بناء هذا الخليفة الفاطمي مع قدوم الحملة الصليبية الأولى في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.
حين قدم الصليبيون (492ه/ 1099م)، لم تكن جرائمهم بحق أبناء القدس المسلمين والمسيحيين الشرقيين واليهود في المدينة فحسب، وإنما أَجروا الدماء في حرم المسجد الأقصى، وبدلاً من تدمير المسجد أطلقوا عليه اسم معبد سليمان، واستخدموه أولاً كقصر ملكي وإسطبلات للخيول، ولكن في عام 513ه/1119م، تم تحويله إلى مقر لفرسان الهيكل، وخضع المسجد لتغييرات هيكلية وعُمرانية، بما في ذلك توسعة الشرفة الشرقية، وإضافة حنية (محراب الكنيسة) وجدار فاصل، وتم بناء دير وكنيسة في نفس الموقع. ومع الفتح الصَلاحي عام 587ه/ 1187م أجريت عليه إصلاحات وأعيد تأهيل المسجد للصلاة، وتم إزالة الإسطبلات ومخازن الحبوب فيه.
تَعرض المسجد الأقصى لتغيرات، واعتداءات همجية من قوى المحتلين في العصر الحديث، وخصوصاً المحتل الإسرائيلي الذي يختلق الادعاءات والأباطيل، برعاية الحكومات الصهيونية "المتطرفة"؛ لإثبات الأصل اليهودي للمسجد الأقصى، ويزعمون بأنه هو المكان الذي كان فيه هيكل نبي الله سليمان (عليه السلام)، فكيف يكون هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، وجُلُّ الحفريات وأعمال البحث التي قاموا بها تحت الحرم القدسي، لم تثبت شيئاً من مزاعمهم في وجود الهيكل، وبأنّ علماء الآثار من اليهود وغيرهم، قد كذبوا مزاعم الصهاينة (لا نقصد كل اليهود لمعارضة نسبة منهم لمشروع الكيان الصهيوني أصلاً)، في وجود الهيكل تحت الحرم القدسي.
وعلى مدار عقود الاحتلال الصهيوني للمسجد الأقصى، يمارس المحّتلون أعمال تهويد وتخريب فيه، ويعتدون على المصلين، ويستبيحون حُرمته باعتداءات واعتقالات وقتل، وتدنيس واقتحامات متكررة، وإحراق أجزاء منه في بعض الأحيان، وقد استولوا على باب المغاربة، وحائط البراق الذي حولوه إلى حائط المبكى، وحاصروا المصلين، وفرضوا أوقاتاً ومواعيد للصلاة فيه، ومنعوا أي محاولات لترميمه، وإعادة بناءٍ ما تصدع منه، وكل سعيهم لطمس الحقيقة التاريخية بأن القدس والمسجد الأقصى وقف للمسلمين وحق لهم، وهم ورثة حقيقيون له؛ لأن دعوة الإسلام خاتمة لدعوة الأنبياء والرسالات السماوية السابقة، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة:3].
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: " الأنبياء الملوك داود وسليمان عليهما السلام "، للدكتور علي محمد الصلابي.
المراجع:
1- الإصابة في تمييز الصَّحابة لأحمد بن عليِّ بن حجر العسقلانيِّ، تحقيق عليٍّ محمَّد البجاويِّ، دار النَّهضة - مصر.
2- الإعلامية في الخطاب القرآني، زهراء البرقعاوي، دار كنوز المعرفة العلمية، الطبعة الأولى، 2019م.
3- الأنبياء الملوك داود وسليمان عليهما السلام، د. علي محمد الصلابي.
4- الطبقات، محمد بن سعد بن منيع الزهري، تحقيق: علي محمد عمر، مكتبة الخانجي للطباعة، القاهرة، ط1، 1421ه، 2001م.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس