د. عطية عدلان - الجزيرة مباشر
لا يَرَى الخلقُ للأزمة السودانية نهاية، ولا للمنحدر الذي يهوي إليه السودانُ غاية، فمنذ اندلاع الصراع قبل تسعة أشهر والبلاد تنزف كلُّها خصبُها وجدبُها، فإلى الآن -حسب أكثر الإحصائيات تفاؤلا- هناك اثنا عشر ألفَ قتيلٍ لا ناقة لواحد منهم في الحرب ولا جمل، وسبعةُ ملايينِ نازحٍ، وانتهاكاتٌ لكل الحرمات على أوسع النطاقات، وتدمير للبنى التحتية بجنون وخبل، كان آخرها مصفاة “جيلي” التي دمرتها قوات الدعم السريع بشكل جزئي في أوائل ديسمبر الجاري ثم أنهتها منذ أيام قلائل، فما هذا الذي يجري بين السودانيين؟ كأنّ كل الروابط والوشائج الوطنية والقومية والإسلامية قد ارتوت حتى الثمالة من قاع بركان متحفز قبل أن تشب فيها نار الفتنة الهوجاء!
هذا الصراع الدامي الذي استعرت نارُه واشتد أورُاه بين الجيش السوداني بقيادة “البرهان” وقوات الدعم السريع بقيادة “حميدتي”، اتسعت دائرته، وانتشر انتشار النار في الهشيم، فلقد تمدد العنف ليطحن المجتمع المدنيّ الأعزل طحنًا، فلو أنّ غزوًا من البربر دَهَمَ السودان ما زادت المآسي الناجمة عنه عمّا يجري الآن، ما كان أحدٌ يتوقع أن ينحدر المستوى الأخلاقي إلى حدّ أن العنف الأهوج لم تسلم منه حتى المناطق التي تستضيف أعدادًا هائلة من النازحين ومن طالبي اللجوء! لقد تحوَّل السودانيون الذين وهبهم الله السهول الخصبة إلى لاجئين في مخيمات لا يجدون قوت يومهم!
فهذا -على سبيل المثال- مخيم “أدري” قد غابت فيه أبسط شروط الحياة، من مأوى آمن وماء وطعام ورعاية صحية وتعليم، يتكدس فيه مئات الآلاف من البشر يأوون إلى كهوف صغيرة من القش بناها اللاجئون بأيديهم، وجلبوا لها المواد الأولية من الطبيعة القاسية التي لا ترحم هي الأخرى، يقول مسؤول مخيم “أدري”: إن عدد “قاطني” المخيم بلغ أكثر من ثلاثمئة ألف شخص، أمّا عدد الأسر التي تتدفق عليه يوميا من ولاية غرب دارفور فقط فيبلغ في أقل التقديرات مئتي أسرة، ولا طعام لديهم إلا تلك الوجبات اليومية غير الآدمية المصنوعة من الذرة أو الدخن، التي يبلغ قيمة الطبق الصغير منها نحو 4 دولارات، ومن ذا الذي يحصل على أربعة دولارات كل يوم لكل فرد من عائلته؟! إنّه الجوع الذي يأكل أجسادهم ويمتص دماءهم ويدق عظامهم.
من السهل أن نصدق أنّ فيلقًا عسكريًّا يجيد حرب الشوارع يمكنه إغراق البلاد في الفوضى لأسابيع أو لشهور قبل أن يجْهِز الجيش عليه، أمّا أن تنجح قوات متمردة في هزيمة الجيش والاستيلاء على مناطق واسعة من البلاد؛ فهذا ما لا يمكن أن يصدق إلا إذا كان جيش البلاد في غاية الهشاشة والترهل، وما يعلمه الكافة عن جيش السودان أنّه مرّ بتجارب وخاض حروبًا خرج من جميعها بخبرة ودربة وكفاءة، فكيف -بعد سقوط دارفور في تراتبية عسكرية مريبة- يفاجأ أهل السودان بمدينة في قلب البلاد تسقط مؤخرًا في قبضة حميدتي، وهي مدينة “ود مدني” عاصمة ولاية الجزيرة التي تتميز بموقعها الاستراتيجي، والتي تُعَدُّ أكبر مورد زراعي وغذائي واقتصادي في السودان، والمؤلم أنّها تستضيف نصف مليون نازح تقريبًا من الخرطوم وحدها، وحلت محلها كمركز اقتصادي، والآن أغلبية أحياء هذه المدينة تشهد حالة نزوح باتجاه مدينتي سنار والقضارف.
والغريب المريب أنّ الجيش السوداني انسحب فجأة من “ود مدني” على الرغم من أنه لم يكن محاصرًا، وعلى إثر انسحابه المفاجئ دخلت قوات الدعم السريع، وهنا تساءل مدونون على المواقع عن علة انسحاب قائد الفرقة وضباطه بلا أدنى مقاومة، هل تم انسحابهم بتعليمات من القيادة العسكرية أم أن قائد الفرقة خالف التعليمات؟ فإمّا أن يكون قائد الفرقة وضباطه قد تورطوا في الخيانة، وإمّا أنّ البرهان نفسَه هو من تُوَجَّه إليه أصابع الاتهام.
يكاد السودان اليوم يشبه الفريسة، التي وقعت بعد طولِ مدافعةٍ منها، وطولِ تربصٍ من جميع السباع والضباع في غابة الضلال والضياع، فإسرائيل التي تحملت الوزر الأكبر في انفصال الجنوب، والتي تهوَى الغوص الخبيث في منابع النيل، لا تزال رابضة هناك، يجري النيل بكل روافده في أرض أحلامها، وأمريكا التي طال فرار البعير الأسود من قبضتها وطالت مراوغته لها تمارس اليوم ترويضه وإذلاله وإخضاعه للهيمنة، وتحاول أن تضيق بذلك على الوجود الروسي والصيني في إفريقيا، وإنجلترا التي لم تنس ثأر جيشها الذي أبيد على يد الحركة المهدية تريد أن يكون لها من كعكة الانتقام نصيب، حتى فرنسا ربما أحبت أن تعوض اليوم بعض ما أهدرته من كبريائها في منطقة القرن الإفريقي؛ فمالت بكلكلها على الحائط المائل، وكل هؤلاء أدواتهم تحيط بالسودان إحاطة السوار بالمعصم، ولقد بدت البغضاء من أفواه زعماء “الإيغاد” ولاسيما الرئيس الكيني ورئيس الوزراء الإثيوبي، أمّا الأقربون فهم كالضباع التي تنافس السباع على الفريسة المنطرحة في الخلاء، فلم يسلم من الاتهام حفتر الذي دعم حميدتي بكل صراحة ووقاحة، وكذلك لم تسلم الإمارات التي اضطرت الخارجية السودانية من قبل إلى أن تتخذ قرارًا بطرد خمسة عشر دبلوماسيًّا من رجالاتها غير المرغوب فيهم، لم تسلم من الاتهام بالتعاون مع حميدتي وتقاسم المغانم المنتظرة من ذهب السودان وخيراته، فهل من ركنٍ يأوي إليه البلد الذي يُنتظر أن يكون سلة غذاء العرب؟!
فيا أيها الشعب السودانيّ العظيم: ها هو بلدك قد تآمر عليه القريب والبعيد، ولا أمل بعد الله إلا فيك؛ فأنت صاحب هذا البلد، وأنت مالكه من دون كل الناس، وأنت صاحب الكلمة العليا فيه؛ فقم وانهض وانفض عنك الوهن، ودع جانبًا اثنين لا خير فيهما، أحدُهما مُدانٌ والآخر متهم، وكلاهما لم تسلم يده من الخوض في دماء الأبرياء من قبل، فلْتَتَشكَّلْ من الآن اللجان الشعبية وقوات الدفاع الشعبي، ولتقم بحماية الأرواح والأعراض والأموال؛ ولتتوحد بهويتها الإسلامية الجامعة؛ لتكون الوارثة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس