يمان دابقي - العربي الجديد
لم تكن زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، العراق، الاثنين الماضي، مجرّد حدث عادي، إذ تصدّرت عناوين الصحف والمجلات، وبدأت محابر الكُتّاب والصحافيين تسيل لتفنيد أهداف الزيارة ومدلولاتها، والمأمول منها، في ظلّ واقع مضطرب، ومنطقة تعجّ بالأزمات والمهددات الأمنية.
لم يذهب الرئيس التركي إلى العراق، الذي غاب عنه 13 عاماً، إلّا بعد حصوله على مؤشّرات صريحة، من مسؤوليه ومستشاريه، بوصول حكومتي العراق (بغداد وأربيل) إلى مرحلة من التجاوب السياسي المعقول مع تركيا، والتعاون في ملفّ مكافحة الإرهاب ضدّ حزب العمال الكردستاني؛ العدوّ اللدود والتاريخي لتركيا. الملفّ الأمني إلى جانب ملفي الطاقة والاستثمار ومشروع "طريق التنمية الاستراتيجي"، كانت الشغل الشاغل، على مدار عام مضى، لكلّ المسؤولين والوزراء في البلدين، فالزيارة الأخيرة جاءت تتويجاً لجهود طويلة قادها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، الذي كان له الفضل الأول في توطيد الأرضية داخل العراق، وفي مدّ جسور تواصل مع كلّ الأطراف داخل العراق، بما فيها أحزاب كردية وسنية، حين شغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات. كذلك، جاءت الزيارة بعد احتضان أنقرة سلسلة اجتماعات على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي في أواخر الشهر الماضي (مارس/ آذار). لذا، تحمل مدلولات الزيارة من ناحية الأهمية أبعاداً مهمّة في إحداث نقلة نوعيّة في العلاقات، ونقلها إلى مستويات استراتيجية، تبدأ بذوبان جليد الخلافات المتراكم، والانتقال إلى تحقيق الآمال والتطلّعات بما ينعكس إيجاباً على البلدين. فمن ناحية التوقيت، جاءت الزيارة في ظلّ أزمات اقتصادية وارتفاع مستوى التضخم في كلا البلدين، بشكلٍ دفع الطرفين إلى التفكير بتنويع مواردهما الاقتصادية، ورفع معدّل التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار في المديين القريب والمتوسط. إقليمياً، جاءت الزيارة، التي تأجّلت أكثر من مرّة، في مناخ دولي ساخن، إذ ألقت تداعيات حرب روسيا وأوكرانيا والعدوان الإسرائيلي على غزّة ظلالها على معادلة الطاقة والأمن في الشرق الأوسط والبحر الأحمر، لأنّ بعض الدول؛ العراق واليمن وسورية، أضحت حلقات تأثير وتأثّر ضمن معادلة الردع الدولية الإقليمية بين أطراف الصراع، مثل إيران التي اتخذت من الساحتين اليمنية والعراقية منصّتين للضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل. في المقابل، أدخلت إسرائيل لبنان وسورية في معادلة التأثير عبر إشعال الجبهة الشمالية وصولاً إلى الأردن وبحر العرب، الأمر الذي انعكس سلباً على ممرّات الطاقة العالمية، التي تمرّ منها نحو 12 % من احتياجات أوروبا والصين النفطية.
كان الساسة الأتراك على مقربة وتماس من هذه المتغيّرات، التي أثّرت، بشكلٍ أو بآخر، على تطلّعات أنقرة المستقبلية في كامل الشرق الأوسط، أهمها، طموح أنقرة في أن تكون بوابةً فعليةً لأمن واقتصادات دول أوروبا، ومركزاً حيويّاً لنقل الغاز، وغيره من الموردات الصناعية والتجارية القادمة من دول الخليج والشرق الأوسط، لذا كان من الطبيعي أن تمضي تركيا وراء مصالحها الوطنية والأمنية والاقتصادية قبل فوات الأوان.
بالنظر إلى الوفد الذي رافق أردوغان، من وزراء الخارجية والداخلية والأمن والاستخبارات والدفاع والتنمية والصناعة والتجارية والمواصلات، يمكن القول إنّ كلّ شيء كان جاهزاً لتدشين مرحلة جديدة من العلاقات مع العراق؛ توقيع اتفاق شامل للتعاون الاستراتيجي، إلى جانب 20 مذكرة تفاهم واتفاق شَملت إلى حدّ ما كلّ مجالات العلاقات الدولية، وهذا ما أغرى، نوعاً ما، الجانب العراقي، الذي لم يتوانَ عن إظهار كامل اهتمامه بهذه الزيارة، من مراسم الاستقبال وصولاً إلى التصريحات السياسية والتغطيات الإعلامية.
وبعد وضع أردوغان اللمسات الأخيرة على مذكّرات التفاهم، التي وقّعها مع رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، وبعد المباحثات التي أجراها مع مسؤولي إقليم كردستان، اتضح أنّ عنوان الزيارة وهدفها من وجهة النظر التركية: "الأمن مقابل التنمية"، وفي الأولى أهمّية قصوى لتركيا، ومحدّد رئيس وناظم للعلاقات مع العراق، ولا نبالغ إن قلنا هي العامل الأكثر أهمّية، الذي دفع تركيا للانفتاح على العراق، لوضع حلّ نهائي لملف مكافحة الإرهاب ضدّ حزب العمّال الكردستاني، الذي يتّخذ من شمال العراق ساحة تهديد لتركيا، التي ترغب في توسيع المنطقة الآمنة داخل العراق إلى عمق يصل لما بين 30 و40 كلم، ومثلها في سورية، وهذا ما أكّد عليه الرئيس التركي في أكثر من مناسبة. وهنا، لا بدّ من التذكير أنّ تركيا تُنفّذ منذ سنوات عمليات عسكرية جراحية على طول شريطها الحدودي مع سورية والعراق، وقد شهد النصف الأخير من العام المنصرم (2023) عمليات نوعية ضد أطر حزب العمّال الكردستاني، ومنشآت الطاقة والبنى التحتية، في مرحلة أولى لتفكيكهم واستنزافهم، أمّا الأكثر أهمّية فهو ما تنوي أنقرة تنفيذه في العام الحالي (2024)، أي تنفيذ عملية عسكرية بالتعاون والتنسيق مع حكومتي بغداد وأربيل، هدفها إبعاد ونزع سلاح كوادر حزب العمّال وتحييدهم عن كامل الشريط الحدودي، وهذا من شأنه أن يمهّد الأرضية لإنعاش عجلتي التجارة والاقتصاد، وحتى النفط والمياه، بين العراق وتركيا، فهل فعلاً ستتعاون حكومتا أربيل وبغداد مع تركيا في الملف الأمني؟ وهل تمتلك تلك الحكومتان الإمكانات والوسائل لتحقيق هذا التعاون؟
من حيث المبدأ، لا خيار أمام الحكومتين إلّا التعاون وإنهاء مخاوف أنقرة، بهدف جني ثمار الاستثمارات في مجالات التجارة والاقتصاد، وبقية المذكّرات الموقّعة، حتى ملف المياه المتنازع، عليه منذ سنوات، لن يُكتب له النجاح من دون تقدّم في الملف الأمني، ولأجل ذلك، اكتفت تركيا بتشكيل لجنة مائية عليا مشتركة مع العراق لمتابعة هذا الملف، ومعنى ذلك أنّ أنقرة ستعتمد نظام المقايضات والمفاضلة بين الملفات، انطلاقاً ممّا ستراه في ملف الأمن والحدود.
التصريحات التي أطلقها السوداني بشأن رفضه أن يكون العراق منصّة تهديد لدول الجوار وتركيا، وحظره سياسياً حزب العمال الكردستاني، إشارات مهمّة للتقدّم نحو تركيا، فيما تبقى المعضلة في تحويل التصريحات إلى أفعال، فضلاً عن موقف إيران من كلّ ما سبق، ودورها في معادلة التأثير في كلّ الملفّات المذكورة، على اعتبار أنّ العراق ساحة خلفية لها، ولديها وكلاء وأذرع ومليشيات وعلاقات مع أحزاب في البرلمان العراقي، فهل راعت الأطراف مصالح إيران في الملفّ الأمني، والتي من دونها، على أقل تقدير، لن تستطيع حكومات العراق تقديم أيّ شيء مفيد لأنقرة؟
تمّت مراعاة مصالح إيران التجارية والاقتصادية، فلدى العراق وتركيا علاقات حيوية مع إيران ولا يمكن تجاهلها، ومن الواضح أنّ إيران لا تُعارض حركة الإنعاش في التجارة والاقتصاد وقد تُقدّم تسهيلات لتركيا في هذا الخصوص، لكن من غير المؤكّد مقايضة إيران ذلك كلّه بالمعادلة الأمنية التي عملت على نسجها سنوات، فعلى سبيل الذكر، يتطلّب طريق التنمية البالغ طوله 1200 كلم، وبتكلفة 17 مليار دولار، تهيئة الظروف الأمنية، من البصرة جنوباً إلى الموصل شمالاً، وصولاً إلى جنوب تركيا وامتداده إلى مرسين، وهذا يقتضي تعاوناً أمنياً واستخباراتياً بين تركيا وحكومتي أربيل وبغداد لتأمين الطريق، وطرد كامل عناصر حزب العمال الكردستاني، في مناطق مثل مثلث سنجار وسهل نينوى، وصولاً إلى الموصل شمالاً، ومن المعروف أنّ بعض تلك العناصر تتلقّى دعماً من إيران، التي وفرّت لهم دعماً لوجستياً، وملاذاً آمناً في جبال قنديل وفي حدودها المتاخمة للعراق.
إذاً، ومن خلال الواقع الراهن، سيخضع هذا الملفّ للتجاذب السياسي بين العراق وتركيا وإيران، وسيصل إلى ذروة التوتّر بين الأحزاب العراقية داخل البرلمان. قد تبدو تركيا مطمئنة في هذا الشأن بعد إعادة ترميم علاقاتها مع غالبية الأحزاب الكردية والسنّية. حتى الأحزاب الناقمة عليها في كردستان العراق، بسبب حوادث مدينة السليمانية الأخيرة، التي استهدفت تركيا فيها مواقع لحزب العمال الكردستاني، أعادت تركيا علاقاتها الطبيعة معها، لكن ذلك كلّه لا يعد كافيا، في نظر مراقبين، ما لم يظهر موقف إيران الفعلي من عمليات التقارب التركي العراقي.
تبقى الملفّات الأخرى التي نوقشت خلال الزيارة؛ تفعيل خط أنابيب كركوك، وإعادة تصدير نفط كردستان إلى تركيا عبر ميناء جيهان، وملفّ المياه والتجارة والمناطق الصناعية، ملفّات عالقة وُضعت لها لجان مشتركة للنظر فيها تدريجياً، ذلك أنّ ملف النفط يخضع لحسابات داخلية بين أربيل وبغداد والشركات الأجنبية المساهمة، والتي ترغب في الحصول على أرباح مضاعفة. وعليه، ستلعب تركيا دوراً حيوياً مع الأطراف الداخلية لحلحلة هذا الملفّ، بهدف عودة تشغيل خط كركوك، الذي أدّى إلى خسارة العراق نصف مليون برميل منذ إيقافه في العام 2023. ينطبق هذا الملفّ على ما سيعمل عليه في ملفّ المياه، ومشاريع طريق التنمية، الذي حقّق تقدماً بتوقيع اتفاقية رباعية مع العراق وقطر، والإمارات المتعطّشة إلى لعب دور استراتيجي في إدارة ميناء الفاو، عبر شركتها الرئيسية في موانئ أبوظبي، ولا يغيب موضوع التنافس مع قطر، التي تحاول هي الأخرى مزاحمة دول الخليج في لعب دور حيوي على الساحة الدولية، كذلك مصر التي ربما ترى في هذا الطريق خطراً وجودياً على قناة السويس، في حال كان الهدف منه إيجاد بدائل برّية وبحرية وسكك حديد تكون خياراً أنسب لدول أوروبا.
كلّ هذه الحسابات، على ما يبدو، أُخذت بعين الاعتبار من صنّاع السياسة الأتراك، الذين اختاروا العراق محطة أولى بعد إنجازاتهم في أفريقيا ودول القوقاز والبلقان، لحجز مقعد لهم في معادلة الملاحة الدولية والطاقة، ووَصْلِ آسيا وأوروبا عبر بوابتهم الحيوية، فهل ستجني تركيا ثمار استراتيجتها الجديدة أم أنّ كلّ ما سبق سيوظّف لتحقيق معادلة الأمن القومي التركي، ودرء المخاطر قبل وقوعها من بوابتي الإغراءات الاقتصادية والتنموية لدول الشرق، لا أكثر؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مواضيع أخرى للكاتب
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس