إحسان أقطاش - يني شفق

في ظل التطورات المتسارعة التي شهدناها خلال الأسبوع الماضي، هل ينبغي علينا التركيز على الخطوة التي أقدم عليها دولت بهجلي، أم على هجوم الخونة الذي استهدف "توساش"، أم على موت الإرهابي غولن؟ كلها قضايا ذات أهمية كبيرة، ولكن إذا تساءلنا عن السبب وراء كل الأحداث التي تجري اليوم، فسنجد أنه يكمن في الخطوات القوية التي اتخذتها بلادنا بعد مرور مئة عام على تأسيسها نحو الاستقلال التام. وإذا أردنا تناول الأنماط المختلفة للاحتلال والسيطرة التي تمارسها القوى الإمبريالية على الدول، فيمكننا تقسيمها على النحو التالي:

أولاً، قام الإمبرياليون باحتلال العديد من الدول في مناطق مثل أفريقيا وآسيا، ولا تزال بعض هذه الاحتلالات مستمرة حتى اليوم.

ثانياً، هناك دول تبدو مستقلة ظاهرياً، ولكنها في الواقع تخضع لحكم ديكتاتوري، مثل العديد من الدول الغنية بالثروات في الشرق الأوسط.

ثالثاً، أما بالنسبة للدول التي لا يمكن احتلالها مباشرة أو حكمها بقبضة ديكتاتورية، يحاول الغرب السيطرة عليها من خلال الحكومات المنتخبة، وذلك باستخدام الحيل المختلفة وتعاون الخونة المحليين بما يتماشى مع مصالح الاستعمار الغربي.

لقد تراجعت هيمنة الغرب وضعفت قوته السابقة؛ فرغم استمرار تفوقه في القوة النارية وقدرته التدميرية وتقدمه في التكنولوجيا العسكرية، إلا أنه بات عاجزاً عن فرض نظام جديد، وهو ما يظهر جلياً من تجارب أفغانستان والعراق واليمن.

في العلاقات الجيوسياسية، قد تعبّر صورة واحدة عن قرن من الممارسات. فمشهد الأفغان الذين تعاونوا مع الولايات المتحدة في أفغانستان، وخانوا شعبهم، وهم يتشبثون بجناحي طائرة أمريكية ويموتون في الجو بعد سيطرة طالبان على كابول، أصبحت رمزًا حيًّا لمصير كل من يخون وطنه لصالح أمريكا في أي مكان في العالم..

أما الجمهورية التركية، التي أشرنا إليها آنفاً في المجموعة الثالثة، فهي دولة تمثل أمةً ذات إرث حضاري يمتد إلى 7000 عام، إنها دولة أسست وحكمت أكبر الإمبراطوريات، وجعلت من الإمبراطورية العثمانية حضارة عريقة امتدت عبر ثلاث قارات، وعلى رأسها قارة أوروبا.

لقد سعت الإمبراطورية الاستعمارية الغربية، عبر حملاتها الاحتلالية والإمبريالية الثقافية على مدى قرنين، لمحو ذاكرة هذه الأمة وثقافتها. فقد عملت الكليات التبشيرية والثقافة الغربية السائدة والأفلام والمسرح والأكاديمية، إضافة إلى حكام ومثقفين ذو نزعة استعمارية مدعين أنهم مؤسسو حضارة جديدة، ليطمسوا الهوية الوطنية ويمحوا ذاكرتها التاريخية.

لكن فقراء هذا الشعب المؤمنين، ومخلصيه من المحافظين والوطنيين، فضلًا عن الأسر العريقة التي حافظت على جذورها، والمثقفين المخلصين قد تمكنوا من إعادة تشكيل هوية هذه الأمة واستعادة ذاكرتها التاريخية.

ولم تتصور أي دولة إمبريالية أن تصل تركيا إلى قوتها الحالية بعد أن فقدت 80٪ من أراضيها عقب الحرب العالمية الأولى وكان عدد سكانها يبلغ 13 مليون نسمة فقط. فكيف تحوّل هذا الشعب، الذي هُزم في الحرب العالمية الأولى، إلى دولة بات الغرب يعجز عن مواجهتها اليوم؟

منذ تأسيسها، تظل هذه الأمة ممتنة لكل حاكم ساهم في وجودها ووضع لبنة في بنيانها. ومن أبرز هذه المساهمات والخطوات:

• بعد قرنين من التراجع عقب حرب الاستقلال، كان عملية السلام في قبرص واستعادة الأراضي من دولة غربية على يد بلد مسلم هي الخطوة الأولى التي قلبت مجرى التاريخ.

• في السبعينيات، تم اتخاذ خطوات جادة نحو تطوير الصناعات الثقيلة والاستثمار فيها.

• بعد الحظر الذي واجهناه خلال عملية السلام في قبرص، تم اتخاذ خطوات في إنتاج الصناعات الدفاعية.

• على مدى العقدين الماضيين، أصبحنا من بين الدول القليلة التي أكملت ثورة البنية التحتية والتنمية دون الاعتماد على دعم الدول الغربية.

• هذه الثورة في البنية التحتية قد تفوقت على معظم الدول المتقدمة في مجالات النقل والصحة والتعليم وإنتاج التكنولوجيا.

• بعد الحرب الأهلية في سوريا، تم إعادة هيكلة الجيش التركي ليكون أكثر قوة وقدرة على الدفاع عن البلاد بطريقة لا تتطلب الاعتماد على تحالفات مثل الناتو.

• إن قوة الجيش التركي وقدراته معروفة للجميع، أصدقاء كانوا أم أعداء، منذ العصور القديمة وحتى اليوم. لكن المستعمرين الغربيين، كما هو الحال في جميع البلدان، جعلوا الجيش التركي يعتمد على معدات الناتو.

• بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو من قبل تنظيم "غولن" الإرهابي، تمكن الجيش التركي من التخلص من القيود القديمة والجديدة التي كانت مفروضة عليه ليصبح واحدًا من أكثر الجيوش كفاءة وقدرة على القتال في العالم.

• لكن أكبر ثورة شهدتها تركيا في العقد الأخير كانت في مجال الصناعات الدفاعية. فوجود جيش قوي يعتمد على إنتاجه المحلي للمعدات العسكرية يمثل تهديدًا حقيقيًا لكل من يحاول فرض هيمنته على تركيا.

لقد تمكنت تركيا من تحقيق وضعية متغيرة ومستقلة داخل مفهوم الناتو، فهي تقدر تحالفاتها، ولكن عندما يتعلق الأمر بمصالحها الوطنية تتخذ موقفا يتعارض مع سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وتظهر قوتها الصلبة عندما تدعو الحاجة، وفي إطار رؤيتها المتعددة الأطراف في السياسة الخارجية، تستمر تركيا في إصرارها على مسار الاتحاد الأوروبي، بينما تتخذ خطوة المشاركة في قمة "بريكس".

إن نجاح تركيا لفت أنظار أعدائها، لذلك فإن الخطوة التي اتخذها دولت بهجلي تأتي في سياق تعزيز الوحدة الداخلية التي يؤكد عليها الرئيس أردوغان. إن العمق السياسي والرؤية الواسعة لتحالف الجمهور الذي يدير السلطة قد أتاح فرصة مهمة لتركيا وللمنطقة. ومن المهم جدًا معرفة كيف سيتم استغلال الفرصة والسير في هذا الطريق.

لقد جربت الدول الغربية حتى الآن كل الطرق للإضرار بتركيا، من إسقاط الحكومات إلى تشويه سمعة القادة، أو تنفيذ الانقلابات أو اللجوء إلى الإرهاب ولكنها فشلت في جميعها تحت قيادة أردوغان. فهذا الشعب مصمم على مواصلة طريقه، فلننتظر ونرى ماذا يخبئ لنا القدر.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس