ترك برس

أكد الكاتب والخبير التركي في مجال علم الاجتماع إمراه أقباش، أن مفهوم الجنس الاجتماعي أصبح في وقتنا الحاضر أداة دعاية لا تعتمد على منهجية علمية، بل تستهدف النظام الاجتماعي.

وقال أقباش في مقال بمجلة "كريتيك باقيش" إن الجماعات التي تلجأ إلى هذا المفهوم تنكر الطبيعة البشرية من أجل خلق عالم اصطناعي، وتحويله إلى شيء يجب تشكيله وفقا للرغبات اللامحدودة لرأسمالية عدم التدخل وعدم المرور.

وشدد على أن الإنسانية عاشت على مر التاريخ في انسجام مع الطبيعة والحقيقة، إلا أن الانجراف الناجم عن ما بعد الحداثة ونهج الجنس الاجتماعي الذي يعد نتاجا لها، قد فصل الإنسانية عن جذورها.

وفيما يلي نص المقال:

العلم هو دليل الإنسان في سعيه للوصول إلى الحقيقة؛ لكن هذا الدليل في بعض الأحيان يظل تحت تأثير الاتجاهات، والضغوط الإيديولوجية، والقوى الهيمنية. اليوم، الخطاب الذي يُعرض تحت مسمى “الجنس الاجتماعي” هو مثال على هذه الهيمنة العلمية. فقد تم إنشاء ضغط فاشي ضد الآراء المعارضة.

ما بعد الحداثة؛ تركت البشرية بلا مكان أو اتجاه أو مسار. ومع ما خلّفته من اضطراب، أصابت الناس بدوار لا يمكن الشفاء منه.

طبيعة ما بعد الحداثة، من خلال إبعاد الإنسانية عن البحث عن المعنى، دفعتها إلى فراغ لا نهاية له. هذا الاتجاه الذي يختزل الواقع إلى بناء اجتماعي، ينكر عالمية الحقيقة، ويفكك الثوابت، ويكسر غصن الإنسان الذي كان يتشبث به. لم يعد للزاوية الثابتة للبوصلة مكان؛ فبدلاً من البحث الثابت عن الحقيقة، حُكم على الإنسان بالانجراف.

هذه المقاربة التي تتحدى الحقيقة، والعدالة، والجمال، والأخلاق، قلبت أيضًا أنماط الإنسان في المعرفة والرؤية والإدراك رأسا على عقب. هذا الخطاب يحمل الادعاء بأن الحقيقة، وكذلك القيم، نسبية. لقد منعت البشرية من الالتقاء على أرضية أخلاقية مشتركة، ودمرت التضامن الاجتماعي. وهكذا ضاعت الأبعاد العالمية للعدالة والجماليات والأخلاق في الهاوية العمياء لما بعد الحداثة. 

الجنس الاجتماعي: هجوم على ثوابت الطبيعة

أصبح مفهوم الجنس الاجتماعي في وقتنا الحاضر أداة دعاية لا تعتمد على منهجية علمية، بل تستهدف النظام الاجتماعي. إن الجماعات التي تلجأ إلى هذا المفهوم تنكر الطبيعة البشرية من أجل خلق عالم اصطناعي، وتحويله إلى شيء يجب تشكيله وفقا للرغبات اللامحدودة لرأسمالية عدم التدخل وعدم المرور.

نجحت العدمية ما بعد الحداثة، مثل كل السرديات الكبرى والثوابت الأخرى، في فصل الجسد البشري عن طبيعته. هذا الانفصال قد قطع الصلة بين الإنسان وجوهره، وجعلها حالة عائمة، وقابلة للانحراف. لكننا يجب ألا نسمح لهذا الانحراف.

إن محاولات إعادة تعريف جنس الفرد على أرضية اجتماعية قد تحولت إلى أيديولوجيا غير إنسانية. هذه الأيديولوجيا، وفقًا لخطابها العقائدي، قد انفصلت عن العلم، وأصبحت تفرض سلوكًا قمعيًا تحت غطاء شرعية مزيفة. ولم يسبق من قبل أن تم إخفاء الاستبداد وراء شرعية متقنة كهذه. المؤسسات الأكاديمية والحكومات والمنظمات الأهلية والمنظمات الدولية ووسائل الإعلام تعمل كأدوات شبه ديمقراطية للاستبداد الحديث.

الواقع البيولوجي والتلاعب الاجتماعي

هوية الجنس هي حقيقة بيولوجية وجزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية؛ لكن المقاربة الاجتماعية للجنس تتجاهل الحقائق الجينية والهرمونية والعصبية، وتحصر الفروقات البيولوجية بين الرجل والمرأة في عوامل اجتماعية فقط. هذا الاختزال يتسبب في إضعاف التفاعل بين الطبيعة والمجتمع، ويمنع الفهم الشمولي للطبيعة البشرية.

يتجاهل خطاب الجنس الاجتماعي التأثير الحاسم للطبيعة على البشر من خلال التعامل مع الثنائية البيولوجية والاجتماعية ووضعهما ضد بعضهما البعض على أرضية متضاربة. هذا ليس مجرد خطأ علمي، بل هو وهم اجتماعي.

هذه الإطار الأيديولوجي الذي يتجاهل الطبيعة ويحاول اختزال الإنسان إلى مجرد منتج اجتماعي، لا يتعارض فقط مع الأدلة العلمية، بل يضعف أيضًا الأسس التي تقوم عليها الروابط الاجتماعية. إن معالجة الطبيعة البشرية من خلال بُعدها البيولوجي والاجتماعي معًا، هي ضرورة أساسية ليس فقط للصدق العلمي، بل أيضًا لفهم الإنسان لوجوده.

آخر حصن للفطرة: الأسرة

الهدف النهائي من خطاب الجنس الاجتماعي هو المؤسسة الإنسانية الأقدم؛ الأسرة. لقد سعى هذا الخطاب إلى تفكيك الأسرة تحت مسمى التنوع، وقام بتقليص قيمها إلى نسبية، مما جعلها بلا أساس. ونتيجة لذلك، تم تقويض تصور المجتمع المرتكز على الأسرة.

عملت مقاربة الجنس الاجتماعي على التلاعب بالواقع عبر اللغة والخطاب؛ فالمصطلحات الأساسية مثل “المرأة” و”الرجل” أو “الأم” و”الأب” قد استُبدلت بتعابير لا جنسية، مما فصل الناس عن علاقاتهم مع الطبيعة أثناء تشكيل هويتهم.

هذه الخطاب الذي يرتدي قناع الحرية، هو في الحقيقة حرب ضد الحرية. وباستخدام أدوات القمع الفاشية، يعمل على إسكات الأصوات التي تعترض على الانحطاط الاجتماعي الذي يخلقه، بطرق مختلفة، ويرسم حدود العلم المعقول والمقبول بشكل لا يمكن قياسه.

تسببت هذه الحرب المتهورة وغير المبررة ضد الفطرة في دمار عميق وفعال لدرجة أنه لم يبقَ من الإنسان سوى الأسرة التي ما زالت تقاوم البقاء على الرغم من تحطمها. هذا الكيان الذي يتطور فيه الناس روحيا واجتماعيا ويتعلمون فيه قيما مثل الحب والرحمة والمسؤولية، ليس مؤسسة اجتماعية فحسب، بل يمثل أيضا الجذور الوجودية للإنسانية. ومن ثم فإن الدفاع عن الأسرة ليس مجرد سعي وراء نظام اجتماعي، بل هو أيضا تعبير عن الإخلاص للطبيعة البشرية والحقيقة. وفي مواجهة الآثار المدمرة لخطاب الجنس الاجتماعي، فإن إعادة تمجيد الأسرة كقيمة والحفاظ على دورها الذي لا غنى عنه في التاريخ البشري هو مسؤولية فردية واجتماعية.

وعندما يتم تدمير آخر حصن للفطرة، فإن الإنسانية ستواجه خطر فقدان آمالها في المستقبل. ولذلك، فإن الدفاع عن الأسرة ليس خيارًا، بل ضرورة.

الكلمة الأخيرة: الوفاء للفطرة والحقيقة

عاشت الإنسانية على مر التاريخ في انسجام مع الطبيعة والحقيقة. إلا أن الانجراف الناجم عن ما بعد الحداثة ونهج الجنس الاجتماعي الذي يعد نتاجا لها، قد فصل الإنسانية عن جذورها. بإمكاننا نقف في وجه هذا الانفصال. ومن خلال الدفاع عن الحقيقة، والعدالة، والقيم الأخلاقية، والجمال، يمكننا إعادة توجيه مسار الإنسانية نحو نور الحقيقة. لأن الوفاء للحقيقة هو أعظم حرية للإنسانية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!