علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر
يكتشف السلطان أن الرجل الذي يقف خلفه في خيمته أثناء الحرب وقائد سلاح الفرسان هو رجل صليبي تسلل إلى أروقة دولته، وتنقّل بين إداراتها من محارب في صفوف الدولة إلى قائد منطقة الحدود الشرقية، ثم ترشح ليكون قائد قلعة، ولظروف الحرب وصل إلى خيمته وترشح عن طريق الصدر الأعظم في منصب قائد سلاح الفرسان، وأصبح ضمن مجموعة القادة الذين يخططون للحرب.
بهذا أصبحت كل خطط السلطان محمد الفاتح لفتح القسطنطينية لدي قسطنطين الثاني إمبراطور الدولة البيزنطية عن طريق فرحات باشا (ليو) الصليبي الذي تم تدريبه وزرعه بين صفوف المسلمين عن طريق بلاتون (أفلاطون) العقل المدبر والعالم المفكر في قادة قسطنطين، ورغم شكوك إسحاق باشا أحد القادة والوزير في الدولة العثمانية التي وصلت إلى كشف الذراع اليمنى لفرحات باشا (ليو الصليبي) وتعاونه مع الصليبيين كرسول من قائده فرحات إلا أن ذلك لم يكشف فرحات، حتى استطاع بدهاء كبير تقديم الدليل على انتماء ليو إلى الامبراطورية البيزنطية.
في قلب ساحة الحرب ووسط معسكر حصار القسطنطينية، يقف السلطان ليحاكم ليو المسيحي الذي صار أحد قادة جيش الفتح، وبعيدا عن الحكم الصادر سلفا وهو إعدام الجاسوس الصليبي، إلا أن محمد الفاتح لم يحاسب فقط الجاسوس الذي تسبب في استشهاد وحرق واغتيال الآلاف من جنوده ورجاله، بل حاسب أركان دولته الجاندرلي باشا الصدر الأعظم وقائد الجيش وزغانوس باشا معلمه وأحد قادة جيشه، في كيفية وصول هذا الجاسوس إلى كل المناصب حتى أصبح قائد سلاح في خيمته وفي قلب المعركة.
في مشهد يضاف إلى المشاهد العظيمة للممثل سيركان أوغلو الذي يؤدي دور السلطان محمد خان (الفاتح) في الموسم الثاني من مسلسل “محمد سلطان الفتوحات”، وما بين الغضب الثورة وتفكيره لرجل يقود الجيش ليفتح أهم مدينة في تاريخ العثمانيين، يقدّم الممثل مشهدا يصعب تكراره، وقد أجاد فريق الكتابة أيضا بعبقرية في رسم المشهد والحوار.
المشهد حوار لشخص واحد (مونولوج) للبطل (سيركان) بتعبيرات وجوه لكل الممثلين في المشهد، وبين الحيرة في عقاب المقصرين وآماله في الفتح، يقدّم سيركان مشهدا وقد استحضر روح القائد محمد الفاتح تماما، وكانت مشاعر خيبة الأمل في رجاله وحزنه على الآلاف من الشهداء تعبيرا لا يخرج إلا من القائد الفعلي للمعركة، هذا الممثل يجعل المشاهد لا يفرق بين الممثل والشخصية التاريخية الحقيقية.
الواقع في مسلسل “سلطان الفتوحات”، الذي أتابعه بدقه وأتوقف عند كل مشهد وشخصية، أنه يقدّم مجموعة كبيرة من الممثلين الذين يؤدون أدوارهم ببراعة لا تجعلك ترصد الفرق بين التمثيل والواقع، من كبار الشخصيات وأصحاب الأدوار الرئيسية أمثال سليم بيرقدار (خليل باشا جاندرلي) سيشكين أوزدمير (قسطنطين) سنان البيرق (زغانوس) سردار غوكهان (علي بن إيفرينوس) قائد المقاتلين وحارس الدولة الأمين صاحب الأدوار المهمة في الحفاظ على الدولة والرسالة، والممثلين الذين قاموا بأدوار إسحاق باشا، وكورتجو قائد الإنكشاريين أهم أسلحة الجيش وتحولاته الشخصية، والصوفي آق شمس الدين ودوره في المعركة التي كادت تؤدي في بعض لحظاتها إلى انسحاب الجيش وهزيمته، وكيف يعيد محمد الفاتح وقادته وجنوده إلى طريق النصر.
كل هذه الظروف في قلب المعركة التي يتعرض فيها جيش الفتح لهزائم كبيرة، والآلاف من الشهداء يتساقطون، لم تقف ظروف المعركة التي استمرت 51 يوما حصارا للمدينة الكبيرة وعاصمة الإمبراطورية البيزنطية، بل امتدت إلى الصراع السياسي بين فريقين، أحدهما يرى استحالة تحطيم الأسوار وهزيمة التحالف الصليبي يتزعمه خليل باشا بزعم الحفاظ على الدولة، والآخر بقيادة محمد الفاتح وزغانوس وآق شمس الدين يسعى لتحقيق النصر وفتح المدينة الكبيرة، وتظل مبررات الفريق الأول تحتمل بعض العقل، فالفارق كبير في قوة الطرفين، وحفاظا على الدولة ننسحب ونعود الآن لنبني ونجعل الشعب يعيش في رخاء (أوهام المستسلمين) هذا التوصيف من عندي.
في ظل هذا الصراع يحدث تآمر من الفريق الأول لإحداث انشقاق في صفوف الجيش الذي في ساحة الحرب، مؤامرة على قائد الإنكشاريين يديرها خليل باشا لإحداث انقسام بعد المعركة التي فقد فيها المئات من الجنود، ومحاولة الإطاحة بكورتجو قائد الإنكشاريين، وفي قلب المعركة يحدث الانشقاق والثورة على قائد أهم الأسلحة، وتُكشف المؤامرة.
يقوم محمد الثاني (السلطان) بإعدام أفراد الانقسام والتمرد، هل كان السلطان وهو يقوم بهذا في قلب المعركة وأثناء حصار المدينة التي يحلم بها المسلمون منذ بشرى الرسول صلى الله عليه وسلم، هل كان ديكتاتورا مستبدا أم عادلا يفرض عدالة الحكم على المتآمرين؟ الواقع أن من حسن حظ محمد الفاتح أنه لم يعش في عصرنا وإلا خرج عليه المتحذلقون والمفكرون والمتقولون، واتهموه بأبشع الصفات بأنه مستبد وديكتاتور وغير ديمقراطي، واقترحوا عليه أن يقوم بعمل جلسات استماع بين الشعب (الحمد لله لم يرهم).
إذَن في المعارك هناك هدف، وعندما يعوق أحدهم الطريق بأي دعاوى وبالمؤامرات، لا ينبغي للقائد أن يستمع لذلك، ويجب أن يأخذ قرارات تحسم مصير الدولة، وفي مصائر الدولة الكبرى والمهمة لا مجال لسماع سفسطة المتحذلقين. ها هو السلطان وفي قلب معركته، يتعرض لأكبر امتحان لقائد وأب، فقد وصلت إليه رسالة من قصره من (مارا هاتون) زوجة أبيه السلطان مراد خان الثاني أن زوجته (بهار خاتون) قد أجلست ابنه بايزيد على كرسيه، وبدأت تعلّمه أصول الحكم، وهو في السابعة من عمره، تحسُّبا لاستشهاد السلطان فتجلسه على العرش، مما أثار الفوضى في القصر.
أصبح هناك صراع بين زوجتَي السلطان على ولاية العهد، وهنا كان على السلطان أن يستدعي علي بن إيفرينوس حكيم الدولة وحاميها، ليقوم بالتخلص من ابنه في قانون للدولة العثمانية “لا صراع على العرش”، لأن الصراع سيؤدي إلى تفتت الدولة، ويقوم ابن إيفرينوس بمهمته.
حالة إنسانية فريدة ومشاهد في غاية الصعوبة، وقرارات يقدّرها الحاكم وحكماء دولته وتراثها، في موقف تحمُّله صعب بل مستحيل لكنها هكذا الدول الكبيرة، والواقع أن محمد الفاتح قد تعرَّض لهذا الموقف مرتين، كانت الأولى مع أخيه أحمد بن مراد خان الثاني بينما كان محمد في عام حكمه الأول، إذ تآمرت أم الأمير أحمد مع بعض أفراد الدولة للإطاحة بالسلطان وتولية الأمير الصغير أحمد العرش على أن يكون جاندرلي وصيا عليه، وللمرة الأولى كان تدخُّل علي بن إيفرينوس للتخلص من الأمير حفاظا على الدولة من الانقسام.
نعيد قراءة الدراما التاريخية مرّات مع توالي الأعمال واستمرارها، ليس فقط للمتعة أو التأريخ فمكان المؤرخين معروف، لكن القراءة هنا لإدراك كيف تدار الدول الكبرى في معاركها المصيرية، فانقسام الأمة في لحظات محدَّدة لا يفيد غير أعدائها، وهل يمكن لدولة قوية في معركة أن تظل قوية وهناك خيانة بداخلها؟ وهل يتوقف الأعداء عن زرع الخونة بيننا؟ ويضاف إلى ذلك أن يصبح للدولة رؤوس متعددة، تصدر قرارات وتشكل جبهات في حالة الحرب، بل يمكن أن يتآمروا مع الأعداء أنفسهم. إن دولة تعاني انقسامات في صناعة القرار خلال معاركها المصيرية هي دولة تنتهي إلى حطام، وفي هذا ضياع للأمة، ففي المعارك الكبرى لا مجال للانقسام والخيانة والتآمر.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس