
ترك برس
استعرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مقال بمجلة نيوزويك الأمريكية، رؤيته لمكانة تركيا في مواجهة أزمات النظام الدولي المعاصر، حيث انتقد عجز الأمم المتحدة ومجلس الأمن عن معالجة الصراعات العالمية ويدعو إلى إصلاح عاجل يحقق عدالة وتعدديّة حقيقية.
أبرز أردوغان دور أنقرة في تبني دبلوماسية قائمة على الحوار والوساطة، مستشهداً بمبادرة حبوب البحر الأسود وجهود تركيا في القوقاز وأفريقيا والبلقان. كما ركز على الموقف التركي من القضية الفلسطينية، مؤكداً ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين ووقف العدوان الإسرائيلي على غزة.
وتطرق الرئيس التركي إلى الملف السوري من زاوية الحفاظ على وحدة الأراضي ورفض الانفصال والإرهاب، في إطار سياسة تركية تجمع بين البعد الإنساني والأمني والسعي لبناء نظام دولي أكثر عدلاً. وفيما يلي نص المقال حسبما أوردته مجلة كريتيك باكيش التركية:
الرئيس رجب طيب أردوغان: الرؤية الدبلوماسية لتركيا من أجل العدالة والرفاه
رجب طيب أردوغان
إن العالم يواجه منذ وقت طويل وبشكل متواصل تزايداً في حالات عدم اليقين والصعوبات. فالصراعات، وانعدام القانون، والهجمات الإرهابية، والأوبئة، وكوارث المناخ، والظلم المتعمق وعدم المساواة، كلها تمارس ضغوطاً كبيرة على النظام الدولي القائم.
في المقابل، تتحرك تركيا برؤية تدير أزمات شاملة ومعقدة ومؤلمة للغاية، وذلك من خلال اتباع نهج في السياسة الخارجية لا يساوم على مبادئ العدالة والسلام والتضامن، مع حماية أمنها الخاص وصون المستقبل المشترك للإنسانية. إن دعوتنا المستمرة منذ زمن طويل والمبنية على المبدأ القائل: “العالم أكبر من خمسة”، تمثل ما يتجاوز مجرد نقد عابر للنظام العالمي القائم، بل تجسد رؤية من أجل المستقبل المشترك للإنسانية.
وإنّ الأمم المتحدة على الرغم من أنها أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية بهدف تحقيق السلام والأمن، إلّا أنّها للأسف لم تعد قادرة اليوم على أداء وظيفتها الأساسية في مواجهة أزمات وصراعات عصرنا. وكذلك مجلس الأمن، وهو الجهاز الرئيسي للأمم المتحدة الذي تأسس على ادعاءات العدالة والمساواة، فقد أصبح مقيداً في عمليات اتخاذ القرارات المتعلقة بالأزمات الإقليمية والعالمية بإرادة ومصالح خمس دول فقط. هذه البنية غير العادلة، التي تُعَدّ أحد المصادر الرئيسية لمآزق عصرنا، ينبغي أن تخضع على وجه السرعة لإصلاح، حتى تتحول الأمم المتحدة إلى مركز متعدد الأطراف يتوافق مع مبادئ تأسيسها، ويكون فعالاً وعملياً، ونتمكن من خلاله من إنتاج حلول عادلة للمشكلات العالمية.
ورغم تراجع فاعلية الأمم المتحدة والفراغ الذي أوجدته المشكلات الجيوسياسية متعددة الطبقات، فقد وضعت تركيا في صميم سياستها الخارجية الدبلوماسية القائمة على الحوار والوساطة. وإنّ مبادرة حبوب البحر الأسود التي أطلقناها مؤخراً هي المثال الأبرز على هذا النهج، إذ قدمت إسهامات ملموسة لكل من الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي. فمن القوقاز إلى أفريقيا، ومن الشرق الأوسط إلى البلقان، لم تتردد تركيا في تحمّل مسؤولية التوصل إلى حل دبلوماسي عادل للنزاعات وإرساء بيئة سلام عادلة ومستدامة.
إن الرؤية الدبلوماسية لتركيا لا تقتصر على حل الأزمات فحسب، بل تتجلى أيضاً في تناول القضايا الإنسانية. وإن تموضع تركيا كواحدة من أبرز مزوّدي المساعدات الإنسانية في العالم هو انعكاس للمسؤولية الموروثة عن تاريخنا العريق وقيمنا. في هذا الإطار، ستواصل تركيا بعزمٍ دورها كدولة رائدة في تعزيز التضامن العالمي.
من جهةٍ أخرى، فإن الاحتلال الذي تواصل إسرائيل فرضه في غزة وما ترتكبه من وحشية يُعد أحد أشدّ الاختبارات قسوةً لضمير الإنسانية. وهذا الاختبار ينتهي بوصمة عار ليس فقط على الفاعلين في النظام الدولي، بل على الإنسانية جمعاء. ففي الوقت الذي يفقد فيه الأطفال والنساء حياتهم، يُحرم الملايين من أبسط الاحتياجات الأساسية. وإنّ تركيا تواصل جهودها من أجل تحقيق وقفٍ لإطلاق النار، وضمان إيصال المساعدات الإنسانية دون انقطاع، وإحياء حل الدولتين. ويمكن القول أنّ أكثر من 100.000 طن من المساعدات التي أرسلناها إلى غزة ليست إلا مثالاً واحداً على الخطوات التي اتخذناها لمداواة جراح إخواننا الذين يكافحون الجوع تحت الحصار اللاإنساني الذي تفرضه إسرائيل. فنحن نؤمن أنه أمام هذه الوحشية التي يلقى فيها العشرات من الأبرياء الفلسطينيين مصرعهم يومياً، سواءً بسبب الجوع أو انعدام الدواء أو رصاص وبنادق وقنابل قوات الاحتلال الإسرائيلي، ينبغي على المجتمع الدولي أن يتخذ موقفاً أكثر حزماً وصدقاً.
لقد ظهر الحق الذي دافعنا عنه بإصرار وشجاعة مرة أخرى بوضوح: فإن السلام العادل لا يمكن أن يتحقق إلا عبر قيام دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود عام 1967، تتمتع بوحدة الأراضي وتكون عاصمتها القدس الشرقية. وهذا أمر لا غنى عنه من أجل تحقيق السلام والاستقرار الدائمين في الشرق الأوسط. إن ندائنا إلى دول العالم واضح: “اعترفوا بدولة فلسطين”، فإن الاعتراف بفلسطين هو بالفعل أقوى رد يمكن تقديمه على الاحتلال والحصار والقمع. ونحن نهنئ الدول التي أعلنت مؤخراً قرارها بدعم هذا المسعى، ونتطلع إلى استمرارها في الحفاظ على عزمها وتحويل التزاماتها إلى خطوات عملية ملموسة.
إنّ سوريا تُعَدُّ بلداً مهماً آخر من حيث الاستقرار الإقليمي. فمنذ عام 2011 تسبّب الصراع الدائر في سوريا بمقتل مئات الآلاف من الأشخاص، وتشريد ملايين آخرين، وإحداث دمار واسع النطاق. واليوم، فإن إعادة إعمار سوريا وتعافيها تُعدّ مسألة حيوية من أجل استقرار منطقة الشرق الأوسط بأكملها. وينبغي أن تُعطى الأولوية في كل قرار يتعلّق بمستقبل سوريا لمصالح الشعب السوري.
كما يجب ألا يُنسى أن الاستقرار والسلام الدائمين في سوريا لا يمكن أن يتحققا إلا من خلال أخذ الإرادة المشتركة لكافة أبناء الشعب السوري بعين الاعتبار، دون منح أي امتياز لطائفة أو جماعة معينة. وكما أكدنا مراراً على جميع المنابر، فإننا سنواصل الدفاع عن مبدأ احترام وحدة الأراضي السورية ووحدتها السياسية.
إن تركيا تعارض كل المحاولات التي تتجاهل إرادة الشعب السوري أو تفسح المجال للطموحات الانفصالية أو للتنظيمات الإرهابية. فالسبيل الوحيد لتصحيح الأخطاء المرتكبة في سوريا خلال الأعوام الأربعة عشر الماضية هو دعم إنشاء دولة ونظام اجتماعي مستقرين على أساس مقاربة أمنية قائمة على التعاون.
ومن خلال خبراتنا المؤلمة، ندرك أن المستقبل المشبّع بالحق والعدالة والتضامن لا يمكن بناؤه إلا بإرادتنا المشتركة. وإن تركيا، الواعية تماماً بهذه المسؤولية، ستواصل بعزم ريادتها لمسيرة الإنسانية نحو مستقبل كريم وعادل.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!