ترك برس

تناول مقال تحليلي للكاتب والأكاديمي التركي أحمد أويصال، التحوّل العميق الذي تشهده القضية الكردية في تركيا والمنطقة، من صراع مسلح امتد لعقود إلى مرحلة سياسية أكثر نضجاً بفعل الإصلاحات الداخلية وتغيّر موازين القوى الإقليمية.

ويعرض أويصال في مقاله بصحيفة الشرق القطرية مسار التقارب بين الحكومة التركية ومنظمة PKK بعد دعوة وقف القتال، إلى جانب تراجع الدعم الأميركي لقسد وتوجه واشنطن نحو دمج الأكراد في النظام السوري.

كما يوضح كيف أسهم التعاون التركي مع العراق وسوريا والولايات المتحدة في تقليص مخاطر الانفصال وخلق بيئة مواتية لإدماج الأكراد ضمن الهياكل السياسية في دول المنطقة. ويخلص إلى أن المرحلة الحالية تتيح فرصة واقعية لتحقيق تسوية تاريخية تعزز الديمقراطية والاستقرار.

وفيما يلي نص المقال:

شكّلت القضية الكردية أحد أبرز التحديات التي واجهتها تركيا لعقود طويلة، فالجمهورية التركية الحديثة، التي قامت على قطيعة مع مبدأ الأخوّة الإسلامية السائد في العهد العثماني، حاولت بناء دولة قومية ترتكز على الهوية التركية وحدها، الأمر الذي أدى عملياً إلى تجاهل الهوية الكردية وحتى إنكارها. ومع غياب الديمقراطية الكافية في تلك الفترة، تحولت المسألة الكردية تدريجياً من مشكلة اجتماعية إلى صراع مسلح. وقد أسفر هذا الصراع المستمر لنحو خمسين عاماً عن أكثر من 40 ألف قتيل، إلى جانب خسائر مادية كبيرة، كما استُخدمت ظاهرة الإرهاب في تركيا كأحد مبررات استمرار الوصاية العسكرية على الحياة السياسية. وخلال العشرين عاماً الماضية، أسهمت عمليات الإصلاح الديمقراطي والتنمية في تركيا في التمهيد لمرحلة جديدة، قربت البلاد من إمكانية الوصول إلى حل نهائي للمسألة الكردية.

قبل عام دعا زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشيلي، شريك الرئيس أردوغان في التحالف الحاكم، منظمة PKK إلى التخلي عن السلاح والمساهمة في حلّ القضية الكردية، وقد جاء ردّ زعيمها المعتقل عبدالله أوجلان إيجابياً، لتعلن المنظمة بعدها وقف القتال والانسحاب من تركيا. وخلال السنة الماضية تحقق تقدّم ملحوظ، فيما اعتُبر إعلان الرئيس أردوغان مؤخراً دخول تركيا مرحلة جديدة في معالجة القضية الكردية إشارة قوية لاستكمال العملية السياسية.

رغم استمرار الدعم الأمريكي والأوروبي، وكذلك الإسرائيلي بدرجات مختلفة للـPKK أو قسد، فإن نجاح تركيا في مكافحة الإرهاب بالتوازي مع خطواتها في توسيع الهامش الديمقراطي كان عاملاً أساسياً في الوصول إلى هذا التحوّل. كذلك أدّى تغيّر النظام في سوريا إلى رفض وجود المسلحين خارج الدولة. الحكومة المركزية في العراق وحكومة إقليم كردستان أصبحتا أكثر استعداداً للتعاون مع تركيا أيضا. وكما نعلم، فقد سلّمت الإدارة الأمريكية خلال الثورة السورية السلاح والدعم المالي لقسد، ومنحتها السيطرة على شمال سوريا وشرق الفرات. لكن مع مرور الوقت، تمكنت تركيا عبر عملياتها العسكرية من إبعاد قسد عن معظم مناطق شمال سوريا، ولم يبق في أيديهم سوى منطقة شرق الفرات. كما تراجع الحماس الأمريكي لدعم قسد بشكل واضح.

تُبدي الإدارة الجديدة في سوريا حساسية عالية تجاه مخاطر الانفصال التي ظهرت في البلاد بين العلويين والدروز والأكراد، وهي حريصة على الحفاظ على وحدة البلاد بكل وضوح. ولولا الضغط العسكري والدبلوماسي الذي تمارسه تركيا، لكان تنظيم قسد، المدعوم بأسلحة أمريكية قوية، قد أعلن على الأرجح الاستقلال شرق الفرات. لكن تركيا، من خلال تعزيز تعاونها مع كلٍّ من الولايات المتحدة من جهة، ومع الدول العربية—وخاصة قطر والسعودية ومصر—من جهة أخرى، أسهمت في خلق إجماع إقليمي حول ضرورة صون وحدة الأراضي السورية ومنع تفككها.

يبدو في هذه المرحلة أن إدارة ترامب قد تخلّت عن فكرة تمكين قوات سوريا الديمقراطية من إقامة دولة مستقلة، واتجهت نحو خيار إدماج قسد والأكراد في النظام السوري، وهو ما تشير إليه الزيارة الاستثنائية للرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة، حيث يُفهم أنها أفضت إلى تفاهمات بهذا الشأن. ورغم أن الزيارة لم تحظَ باحتفاء كبير، فإن سوريا تمكنت من الخروج من عزلتها تدريجياً، واستعادت حضورها الإقليمي والدولي، إذ رُفعت معظم العقوبات المفروضة عليها وانضمت إلى التحالف الدولي لمحاربة داعش. وبالنظر إلى أن قسد كانت تتلقى الدعم والتسليح تحت ذريعة محاربة التنظيم، فإن هذا التحوّل يُعد تطوراً مهماً يمس الدول الثلاث—تركيا والولايات المتحدة وسوريا—باعتباره سيفرض ترتيبات جديدة على مستقبل الملف الكردي وتوازن القوى في المنطقة.

تسعى تركيا من خلال الجمع بين سياسة الترغيب والردع في آن واحد، وبالتعاون مع العراق وسوريا والولايات المتحدة، إلى إنهاء النشاط المسلح لمنظمة PKK، وفي الوقت نفسه تدعم—وربما تدفع باتجاه—دمج الأكراد في تركيا وسوريا والعراق ضمن النظامين السياسي والاجتماعي في هذه البلدان. وقد بات واضحاً أن تجاوز المشكلات الاقتصادية والسياسية يتم عبر الحوار والديمقراطية والتنمية في تركيا وسوريا. ومن المتوقع أن يمنح هذا الواقع الجديد مزيداً من الحقوق السياسية للأكراد داخل تركيا بما يعزز من قوة حكومته، كما يفتح فرصة حقيقية لترسيخ الأخوّة والتعاون التركي–الكردي–العربي، الأمر الذي من شأنه الإسهام في تحقيق السلام والاستقرار الإقليمي. ومع ذلك، فإن الصورة النهائية لما يجري تتطلب انتظار أربعة إلى خمسة أسابيع إضافية قبل اتضاحها بالكامل.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!