ترك برس

في ظل الجدل الدائر حول ترتيبات ما بعد الحرب في قطاع غزة، برزت مسألة مشاركة تركيا في أي قوة دولية محتملة كعامل حساس في ميزان القوى الإقليمي. فوجود قوات تركية في غزة – بحسب تقديرات محللين – قد يمنح أنقرة نفوذاً إضافياً يحدّ من الهيمنة الإسرائيلية، ويعيد رسم المشهد السياسي والأمني في القطاع، ما يثير تحفظاً واضحاً من تل أبيب التي تخشى تعاظم الدور التركي في القضية الفلسطينية.

وفي هذا الإطار، أشار الكاتب والمحلل السياسي أحمد الحيلة، إلى تسلم إسرائيل جميع أسراها الأحياء، وأغلب جثث أسراها الأموات لدى كتائب القسام، لا سيما جثة العقيد أساف حمامي قائد اللواء الجنوبي في فرقة غزة يوم الاثنين 3 نوفمبر/تشرين الثاني، وهو أرفع ضابط إسرائيلي تأسره المقاومة الفلسطينية.

وأضاف في مقال له على "الجزيرة نت" أنه يوشك تبادل الأسرى أن يصل إلى نهايته، وهو أحد الملفات التي أرّقت بنيامين نتنياهو؛ بسبب ضغط المجتمع الإسرائيلي، وعائلات الأسرى، وقيادة الجيش التي تنظر لاستعادة جنودها الأسرى كالتزام "أخلاقي".

وفيما يلي تتمة المقال:

تبادل الأسرى على أهميته، ربما يعد الملف الأكثر سهولة في اتفاق وقف إطلاق النار، مقارنة بالملفات السياسية الأخرى الشائكة والتي تتعلق بمصير قطاع غزة، وبحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية.

إنجاز ملف الأسرى بكامل تفاصيله قد يكون مؤشرا إيجابيا للتقدم في الملفات الأخرى، وربما يؤدي إلى تراجع إسرائيل في التزاماتها الأمنية والإنسانية، فالاحتلال أثناء تبادل الأسرى، لم يلتزم بإدخال أكثر من 25% من المساعدات الغذائية والطبية، ولم يُدخل أكثر من 10% من المحروقات اللازمة، ناهيك عن قصفه المتكرر قطاع غزة، ما أدى لارتقاء أكثر من 250 شهيدا ومئات الجرحى، ما يشير إلى سوء نية مبيتة.

حقل ألغام

الاتفاق على أهميته بوقفه الإبادة الجماعية، ورفض التهجير، وإدخال المساعدات نسبيا، وإقراره مبدأ انسحابٍ إسرائيلي كاملٍ من قطاع غزة، إلا أنه يحمل في طياته ملفات معقدة تشكل بيئة خصبة للخلاف والصدام السياسي، إن لم يكن الاشتباك الأمني لاحقا. ومن هذه القضايا الشائكة:

أولا: إدارة قطاع غزة بين رؤيتين

 خطة الرئيس ترامب تسعى لتشكيل لجنة إدارية من "فلسطينيين تكنوقراط ومتخصصين دوليين" بقيادة رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، لإدارة شؤون البلديات والخدمات العامة، تحت رقابة وإشراف "مجلس السلام"، بقيادة الرئيس ترامب.

تستمر هذه الصيغة حتى الوقت الذي تستكمل فيه السلطة الفلسطينية برنامج الإصلاح الخاص بها، ما يؤشر إلى احتمال تحول هذه الصيغة المؤقتة إلى دائمة وفق المنظور الأميركي الإسرائيلي.

في المقابل تسعى حركة حماس والقوى الفلسطينية لأن تكون إدارة قطاع غزة عبر هيئة فلسطينية من التكنوقراط، وبقيادة فلسطيني من قطاع غزة، أو بقيادة وزير من السلطة الفلسطينية في رام الله، على أن تحظى هذه الهيئة بإجماع وطني، مع إمكانية أن يساعد "مجلس السلام" بقيادة الرئيس ترامب في ملف الإعمار، ويتابع شفافية عمل الهيئة الفلسطينية المكلفة.

ثانيا: نزع سلاح المقاومة.. ومصر تتحفظ

الخطة تنص على نزع سلاح المقاومة وتفكيك البنى التحتية لها، وخاصة الأنفاق، وربط استكمال انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة بإنجاز ذلك، وضمانة ألا يشكل قطاع غزة تهديدا لإسرائيل، مع تمكين القوات الدولية من السيطرة على قطاع غزة؛ لتأمين الحدود ومنع إدخال الأسلحة.

في المقابل حركة حماس والمقاومة الفلسطينية تربطان بين وجود السلاح وقيام الدولة الفلسطينية، وتعتبران هذا الملف ملفا وطنيا يحتاج إلى نقاش وتوافق وطني ابتداءً.

اللافت في هذا السياق تصريح السيد ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المرتبطة بالرئاسة المصرية، عندما أشار الشهر الماضي إلى أن إسرائيل تريد نزع سلاح حماس، وحماس ترفض، وتعتبره سلاح مقاومة، مشيرا إلى أن هناك اقتراحا يقضي بـ "تجميد سلاح حماس خلال هدنة تمتد 10 سنوات بدلا من نزعه".

موقف رشوان يشير إلى أن مصر تتحفظ على فكرة نزع سلاح المقاومة، بدون نيل الفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم، وقيام دولتهم الفلسطينية؛ فإن كانت الدولة لم تتحقق في الوقت الذي يُقاتل فيه الفلسطيني، فكيف يمكن قيامها وإسرائيل تُحكِم سيطرتها على القطاع وتستوطن في الضفة، وقد نزعت أنياب الفلسطينيين وأظفارهم.

هذا، بالإضافة إلى أن غزة تعد البوابة الشرقية لمصر تاريخيا، وليس من مصلحة مصر أن تسقط بيد الاحتلال الإسرائيلي، أو أن تقع تحت سيطرته المطلقة.

ثالثا: قوات فصل دولية أم قوات لحماية الاحتلال؟

فكرة القوات الدولية، طرحٌ يكتنفه الغموض، فخطة الرئيس ترامب تعمل على إنشاء قوات "استقرار دولية"، باعتبارها قوات "حل طويل الأمد"؛ لتوفير المتطلبات الأمنية، وتأمين الحدود، ومنع دخول السلاح إلى غزة.

هذا الغموض سيجعلها إحدى نقاط الخلاف والنقاش بين الوسطاء الضامنين أنفسهم، وبينهم وبين الاحتلال الإسرائيلي، وفي أروقة الأمم المتحدة.

الاحتلال الإسرائيلي يرفض مشاركة تركيا، وقطر في قوام هذه القوات- مع أنهما دولتان ضامنتان للاتفاق مع مصر، والولايات المتحدة- بحكم العلاقة الإيجابية التي تربطهما بحركة حماس، فتركيا تعتبر حماس حركة تحرر وطني، والرئيس أردوغان، يصف نتنياهو بهتلر، ويتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، ويدعم مع قطر حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره الذي ترفضه إسرائيل.

وجود قوات تركية في غزة يمنح أنقرة ورقة قوة جديدة في مواجهة النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، فتركيا باتت تتمتع بعلاقات متقدمة مع سوريا، والعراق، ومع دول الخليج العربي، ومصر، وليبيا، والسودان..، وتحظى بعلاقات مهمة مع واشنطن التي توليها أهمية خاصة بحكم العلاقات الجيدة بين الرئيسين؛ أردوغان، وترامب.

هذا، ناهيك عن النقاش الجاري بشأن مرجعية هذه القوات، بمعنى هل ستعمل بقرار من مجلس الأمن أم لا؟ وما هو موقف الصين وروسيا؟ وهل مجلس الأمن سيحدد لها مهامها وصلاحياتها أم سيترك الأمر للولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل؟ وهل هي قوات فصل دولية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، أم معنية بنزع سلاح المقاومة، وملاحقة النشطاء الفلسطينيين؟

الحرب لم تنتهِ بعد

خطة الرئيس ترامب أنهت الجولة الأولى من الحرب، بإيقافها جريمة الإبادة الجماعية، وبوضعها أساسا نظريا لمنع التهجير وإعادة تأهيل وإعمار قطاع غزة، وانسحاب جيش الاحتلال، ولكنها أبقت العديد من القضايا المركزية عالقة ومحل نقاش وجدل، كنزع سلاح المقاومة، وإخضاع القطاع لوصاية دولية طويلة الأمد، دون النظر في جوهر المشكلة وحلها بتمكين الشعب الفلسطيني من حقه في تقرير مصيره، ما يجعل الاتفاق هشا بعد عامين من القتال، وفي ظل حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة.

هذا الواقع يُغذي الشك في المستقبل، والخشية من عودة التصعيد في قطاع غزة، فالإدارة الأميركية لم تتراجع عن تحقيق أهداف الحرب وأهداف بنيامين نتنياهو بالقضاء على حركة حماس سلطويا بإبعادها عن إدارة القطاع، وعسكريا بنزع سلاحها، وأخذ غزة إلى الوصاية الدولية بديلا عن الاحتلال الإسرائيلي المباشر.

ربما هناك صعوبة لعودة الحرب على نسق ما كانت عليه خلال العامين الماضيين (إبادة جماعية)؛ بسبب تعاظم عزلة إسرائيل الدولية، وإنهاك جيشها، وبروز مشكلة التجنيد، وتقييد الحرب الوحشية المفتوحة باتفاق شهدت عليه 20 دولة وازنة في احتفالية شرم الشيخ بقيادة الرئيس ترامب.

لكن صعوبة عودة الحرب بوحشيتها السابقة لا تعني تراجع واشنطن وتل أبيب عن تحقيق أهداف الحرب التي نشبت منذ سنتين؛ فخطة ترامب مصمَمة لتحقيق تلك الأهداف عبر المفاوضات، ومن خلال استثمار تداعيات الكارثة الإنسانية لتطويع الموقف الفلسطيني.

وفي هذا السياق يتم غض النظر عن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي، وعمليات القصف الموضعية التي أودت بحياة أكثر من 250 شهيدا، ومئات الجرحى، بذرائع وأسباب شتى، والمقصود منها استمرار النزيف الفلسطيني لتحقيق الأهداف.

غزة غزتان: شرقية وغربية

الاحتلال بطبعه لن يتوقف عن السعي لامتلاك المعادلة الأمنية عبر بقائه في أجزاء واسعة من قطاع غزة، ولن يتوقف عن ابتزاز الفلسطينيين عبر المعابر والحصار، وتعطيل مسيرة الإعمار، حتى يُبقي الفلسطيني منشغلا ومستنزفا في توفير الحد الأدنى من مقومات الحياة، ما يشكل آلية ردع وعقاب مستدامة للفلسطينيين.

في هذا السياق، قد يلجأ الاحتلال للعمل في مسارين متوازيين:

المسار الأول: استثمار الكارثة الإنسانية، وتعطيل الإعمار لدفع الفلسطينيين للخروج من القطاع؛ بحثا عن علاج وعمل وتعليم، ولتوفير مقومات الحياة، للتخلص من أكبر عدد ممكن من السكان، ومن غير المستبعد أن يخضع ذلك لبرامج استيعاب "إنسانية" في بعض الدول للتوطين.
المسار الثاني: تقسيم قطاع غزة إلى غزتين: شرقية وغربية؛ وذلك في حال تعثر إنفاذ مراحل خطة ترامب المتعلقة بنزع سلاح المقاومة، والوصاية الدولية، بعد الانتهاء من ملف الأسرى الذي وصل إلى مراحله الأخيرة.

واقعيا النصف الغربي من قطاع غزة يقع تحت إدارة حركة حماس، وهو يضم نحو مليونَي فلسطيني، والنصف الآخر فارغ من السكان، ويقع شرقي الخط الأصفر، تحت سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي.

إسرائيل وبدعم أميركي قد تشرع في إعادة تأهيل المناطق الواقعة شرقي الخط الأصفر؛ لاستيعاب السكان الراغبين بالانتقال للعيش تحت السيطرة الإسرائيلية التي ستوفر لهم الخدمات العامة والمساعدات، وإمكانية استئناف دورة الحياة من جديد.

يساعدها في ذلك وجود قوات دولية يشرف عليها مكتب التنسيق المدني والعسكري الذي أنشأته واشنطن في إسرائيل، والمعني بمتابعة الشؤون اللوجيستية لاتفاق وقف إطلاق النار، وهو المكتب الذي انضمّ إليه عشرات الدول، والمنظمات حسب الإعلانات الأميركية.

هذا السياق يتقاطع مع البند (17) الوارد في خطة ترامب لإنهاء الحرب، والذي ينص على: "في حال تأخر حماس أو رفضها هذا المقترح (ما ورد في خطة ترامب)، سيتم البدء بتنفيذ ما سبق ذكره، بما في ذلك توسيع عملية المساعدات الإنسانية في المناطق الخالية من الإرهاب (شرق الخط الأصفر)، والتي يتم تسليمها من الجيش الإسرائيلي إلى قوة الاستقرار الدولية".

وما يعزز هذه الفرضية تصريحات نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس أثناء زيارته إسرائيل في 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقوله: "نأمل أن نبدأ إعادة الإعمار بسرعة في المناطق التي ليست تحت سيطرة حماس"، وأضاف: "نأمل أن يتمكن حوالي نصف مليون شخص من العيش في مدينة رفح في غضون سنتين أو ثلاث".

الهدف من ذلك شطر الشعب الفلسطيني في غزة إلى شطرين؛ شطر يعاني من الحرمان والكارثة الإنسانية تحت إدارة حركة حماس والمقاومة الفلسطينية المحاصرة غربي الخط الأصفر، وشطر يبدأ باستعادة معالم الحياة شرقي الخط الأصفر تحت السيطرة الإسرائيلية، ما يتيح الضغط على الحاضنة الشعبية لتنفض عن المقاومة، وتنتقل من غربي الخط إلى شرقيه، أو من غزة الغربية تحت حكم حماس، إلى غزة الشرقية تحت حكم إسرائيل والقوات الدولية.

هذا السيناريو ناتج عن إدراك الاحتلال ومن خلفه الأميركان، أن أحد أهم أسباب قوة حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في مواجهة حرب الإبادة، ومخططات إسرائيل الاحتلالية، هو تماسك المجتمع الفلسطيني، ووحدة الحال بينه وبين المقاومة.

من هنا فإن التفكير الصهيوني، وبعد فشل المقاربة العسكرية في تحقيق أهداف الحرب، يتجه لاستهداف الحاضنة الشعبية بعزلها عن المقاومة عبر مناطق "إنسانية" تُنشأ بمعايير إسرائيلية؛ لإفساح المجال للقضاء على المقاومة واستنزافها؛ فالجولة الأولى من الحرب توقفت، ولكن الحرب مستمرة، والمواجهة ما زالت محتدمة وفصولها لم تنتهِ بعد.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!