ترك برس

استعرض مقال للكاتب والسياسي التركي ياسين أقطاي، الجدل الكلاسيكي حول العلاقة بين التكنولوجيا الغربية والثقافة التي نشأت فيها، من منظور إسلامي تاريخي نقدي.

وينطلق أقطاي من تفكيك الأطروحة الشائعة القائلة باستحالة الفصل بين العلم والثقافة، مبرزًا كيف تعامل المسلمون تاريخيًا مع الحضارات المختلفة بانتقائية واعية دون فقدان هويتهم.

كما يعيد قراءة موقف النخب العثمانية وحلقة «سبيل الرشاد» بقيادة محمد عاكف إرسوي، مبيّنًا أن فشل التجربة التركية لم يكن نتيجة حتمية لاستيراد التكنولوجيا، بل ثمرة مشروع سياسي شمولي فرض التغريب بوصفه خيارًا أيديولوجيًا كاملاً.

وفيما يلي نص المقال الذي نشرته صحيفة يني شفق:

رغم من عدم معارضة الإسلام لمفهوم التغريب وتوجهاته فإن موقفه الرافض "استيراد بعض الأشياء من الغرب" كان في الحقيقة قائماً منذ البداية على انتقائية مريحة للغاية. فالغرب ليس العالم أو الحضارة أو المجتمع المختلف الوحيد الذي واجهه المسلمون. فعبر التاريخ، وبفضل فتوحاتهم المتعددة، اختلط المسلمون بمجتمعات شتّى تدين بديانات مختلفة وتتبنّى فلسفات متنوّعة، وتعاملوا معها جميعًا بثقة مستمدّة من قوة الفهم الديني للإسلام، ولم يروا حرجًا في الأخذ بما يمكن الإفادة منه. ذلك أن الإسلام بطبيعته دين قادر على دمج الحضارات الأخرى في ثقافته.

وبما أن الأصل في الأشياء الإباحة، فإن الإسلام لم يجد بأسًا في تبني الأعراف والعادات والتقاليد المختلفة، ما دامت لا تتعارض مع مبادئه الأساسية.

من هذا المنظور، فإن جانباً من علاقة الدولة العثمانية بالغرب لم يكن بالنسبة لبعض المسلمين سوى تفاعل إسلامي اعتيادي للغاية، وما يلزم فعله بسيط للغاية: يمكن أخذ كل ما هو مفيد منه، كما حدث مع الثقافات والحضارات الأخرى. ولكن بالطبع لا يمكن الأخذ بأي جانب من جوانب دينهم أو فلسفتهم التي تتعارض مع المبادئ الأساسية للإسلام.

وقد تقبلت النخب العثمانية ودائرة "سبيل الرشاد"، التي شكّلت أحد أبرز الأصوات للقضية الإسلامية، هذا الأمر. غير أن سؤالًا إشكاليًا ظل يفرض نفسه بإلحاح عند هذه النقطة بالذات: ليس الأخذ بالتكنولوجيا الغربية كفيلاً بأن يجلب معه ثقافته وأسلوب حياته وفلسفته؟

هذا أحد مواضيع النقاش التي تحظى بصلاحية دائمة، بحيث يمكن أن تعيد الاصطفافات وتفرض خطوطًا فاصلة بين المواقف: هل يمكن حقًا فصل التكنولوجيا عن الثقافة؟

كان لهذا النقاش صدى واسع في جميع أنحاء العالم الإسلامي أواخر القرن التاسع عشر، وفي الواقع قدمت الأوساط الإسلامية السائدة إجابتها على هذا النقاش بارتياح أكبر من الأجيال اللاحقة: بالتأكيد، يمكن فصل التكنولوجيا والثقافة عن بعضهما البعض. لم يكن هذا وضعاً صعب الفهم أو القبول إلى هذا الحد.

في هذا الصدد، يرى أكثر العلماء أن استيراد التكنولوجيا هو ليس جائزًا فحسب، بل ضرورة دينية أيضًا. فمن الضروري التسلح بأسلحة العدو وعدم حرمان الأمة من الإمكانيات التي يفرضها العصر. وحتى السلطان محمد الفاتح، الذي بشّر النبي (صلى الله عليه وسلم) بفتحه إسطنبول، قد أخذ جزءاً كبيراً من التقنيات التي استخدمها عند فتح إسطنبول من خبراء أوروبيين غير مسلمين. ولم يتردد السلاطين الآخرون أبداً في استيراد مثل هذه التقنياتكلما اقتضت الحاجة، دون أن يساورهم قلق من أن تحمل هذه التقنيات، بالضرورة، ثقافةً مغايرة مفروضة معها. وبهذا اكتسبت التكنولوجيا، بصفتها أهم وسيلة للتحديث، دافعاً دينياً في هذا السياق.

بالنسبة للأجيال اللاحقة التي صاغت انتقادات للتغريب أو التحديث باسم الإسلام، ربما كان هذا الموقف بمثابة "الخطيئة الأولى" التي أدت إلى الانحراف نحو الحداثة. ولهذا السبب، تعرّضت حلقة "سبيل الرشاد" والإسلاميون في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وخاصة حلقة "سبيل الرشاد"، للكثير من الانتقادات.

لقد عبّرت حلقة "سبيل الرشاد" الإسلامية، التي قادها الشاعر محمد عاكف إرسوي، عن حلها لهذه المسألة بالصيغة نفسها، أي وكأنها ترتكب نفس "الخطيئة الأولى" بصيغة بسيطة جداً: علينا أن نأخذ تكنولوجيا الغرب ومعارفه المفيدة، ولكن نترك له ثقافته. وقدمت قصيدته المشهورة التي تبدأ بـ: "خذوا علمه من الغرب، وخذوا صنعته..." أفضل صيغة لهذا النمط من العلاقة.

ولا يقتصر رأي عاكف في هذا الموضوع على ما ورد في هذا البيت الشعري، فعمله الشعري المتعلق بـ"جيل عاصم" يروي هذه القضية على نحو مختلف. ولسنا في حاجة إلى الإطالة في بيان ذلك هنا.

وخلاصة القول إن مسألة الغرب، في نظر الإسلاميين آنذاك، لم تكن في حقيقتها مشكلة معقّدة كما يُتصوَّر، بل كانت قابلة للحل عبر معادلة يسيرة: الفصل بين علم الغرب وتقنيته عن ثقافته، والأخذ بالأول وترك الثاني، وهو أمر لم يكن صعباً على الإطلاق.

وقد تعرضت هذه المعادلة لاحقًا، لانتقادات لاذعة من قبل المثقفين الإسلاميين بعد سبعينيات القرن الماضي. وارتكزت هذه الانتقادات إلى افتراض لا جدال فيه مفاده أن التكنولوجيا والثقافة لا تنفصلان، وأن التكنولوجيا نتاج ثقافة وأسلوب حياة، وتقوم على أساس فلسفي، وأنه تبني التكنولوجيا، يستلزم بالضرورة أخذ الثقافة وأسلوب الحياة.

غير أن هذه العبارات النقدية "الفكرية النمطية"، التي تبدو للوهلة الأولى أنيقة ومشحونة بالتصريحات الرنانة، تقوم في حقيقتها على استنتاجات متسرعة للغاية، تتعارض مع الوقائع التاريخية، كما أنها تُظهر مبالاة ساخرة سافرة تجاه قضايا المسلمين آنذاك. وهذا المنهج، الذي لا يتحمّل أي مسؤولية إزاء الحاضر ويبدو بعيداً عن فهم المسؤوليات التي حملها أهل ذلك العصر، قد يلفت الأنظار بحدّيته، ولكن يستحيل أن يُفضي إلى فقهٍ أو سياسة نافعة للمجتمعات الإسلامية.

في غضون ذلك، بدا أن الذين انتقدوا حلقة "سبيل الرشاد" انطلاقاً من هذه الأطروحة يمتلكون ميزة، حيث كان موقفهم يبدو مدعوماً بالأحداث التي وقعت فعلياً في المسار اللاحق للتحديث التركي. . فمع مرور الوقت، تم تبني الثقافة الغربية جنبًا إلى جنب مع التكنولوجيا. أي أن التحديث التركي لم يكتفِ باستيراد التقنيات والمؤسسات الغربية فحسب، بل استورد أيضاً القيم الأيديولوجية الغربية وأسلوب الحياة اليومي والثقافة الغربية برمّتها. ففي تركيا، تغيرت الملابس، وأغلقت المؤسسات التعليمية الإسلامية، وانسحب الإسلام بالكامل من الحياة السياسية والاجتماعية، وابتعدت العلاقة بين المرأة والرجل بشكل كبير عن أشكال المجتمع التقليدي، وتجاوز مفهوم الخصوصية إلى حد كبير جميع الحدود التي تميز المجتمعات الإسلامية والتقليدية، كما تغيرت قواعد السلوك الاجتماعي (الآداب العامة) تغيرا شاملًا. وبدا المشهد، للوهلة الأولى، وكأنه يؤكّد صحة القائلين بأن استيراد العلم والتقنية الغربيين يستلزم بالضرورة استيراد الثقافة أيضًا. فهل الأمر كذلك فعلًا؟

والحقيقة هي:

1- إن تبنّي تركيا للقيم أو الثقافة الغربية، بما في ذلك آداب السلوك والمعاشرة، لم يكن نتيجةً حتمية لاستيرادها العلوم والتكنولوجيا الغربية.

2- مع قيام الجمهورية، لم يبقَ في الأصل مجالٌ أو أرضيةٌ لاختبار أطروحات جماعة "سبيل الرشاد"، إذ إن الجمهورية كإرادة سياسية تأسست عبر تصفية الآخرين على يد أولئك الذين تبنّوا التحديث باعتباره مشروعًا شاملًا للتغريب. ومنذ تلك اللحظة، لم تعد هناك إرادة سياسية يمكنها أن تسلك خيار استيراد العلم والتكنولوجيا مع ترك الثقافة. فبرنامج التحديث الذي اعتمدته الكوادر المؤسسة للجمهورية، مقابل الكوادر الرسمية العثمانية أو الإسلامية، لم يكن انتقائياً ومُدقّقاً في اختيار القيم الغربية، بل على العكس من ذلك، كان يستورد بشكل شامل جميع القيم والمؤسسات الغربية، بل حتى الأزياء والملابس.

وخلاصة القول: إن الثقافة الغربية وآداب السلوك والمعاشرة لم تدخل إلى العالم الإسلامي، عبر باب العلوم والتكنولوجيا، كما يُعتقد غالبًا. بل تدفّقت عبر الطريق الواسع الذي فتحته السياسة، وفُرضت على المجتمع فرضًا. بل إن استيراد العلم والتكنولوجيا الغربية لم يتم، على النحو الذي يُدَّعى، بدافع جادّ لسدّ الفجوة مع الغرب، بل كان التركيز منصبًا على استيراد الثقافة وأنماط السلوك والآداب.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!