د. زبير خلف الله - تركيا بوست
على إثر زيارته إلى إسطنبول، للقيام بمحاضرة فكرية سياسية بدعوة من جمعية الموصياد التركية، تحدث الشيخ “راشد الغنوشي” عن الإنسان والديمقراطية والحرية في الدولة الإسلامية، وقدم رؤيته لهذه المحاور الأساسية التي باتت تمثل مركزية المشروع التغييري المعاصر في الفكر السياسي الإسلامي. وتناول الغنوشي هذه المحاور ضمن سياق الراهن الذي تعيشه الأمة العربية والإسلامية. وقد اعتبر الغنوشي أن هذه المفاهيم لا تتصادم مع الإسلام بل لها ما يبررها داخل الحقل الإسلامي، وأنها تعد أهم مطالب الشعوب العربية والإسلامية الطامحة إلى التخلص من الاستبداد والتخلف والإرهاب، والسعي إلى بناء نهضة حضارية شاملة.
وقد حضر في هذه الندوة عدة شخصيات سياسية وفكرية وإعلامية تركية أبدت إعجابها بهذه الأفكار التي قال عنها عدد كبير ممن يناصرون حزب العدالة والتنمية أن فكر راشد الغنوشي يمثل أهم ركيزة في الأدبيات الفكرية والسياسية المشكلة لحزب العدالة والتنمية، بل يعد فكره البذور الأساسية التي كانت سببا في ولادة حزب العدالة والتنمية بقيادة جيل جديد داخل حزب الرفاه الذي وصل إلى نفق سياسي مسدود، مما دفع بهذا الجيل الجديد وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان وعبد الله غول إلى البحث عن أفكار جديدة أكثر حداثية وأكثر واقعية فكان أن وجدوا في كتب راشد الغنوشي ضالتهم، واعتبروا أن فكر الشيخ راشد يعد نقطة تحول في تغيير رؤاهم السياسية ومفاهيمهم وقناعاتهم الفكرية التي كانوا يتبنونها.
لم يكتف المعجبون الأتراك بأفكار الشيخ راشد الغنوشي من أبناء حزب العدالة والتنمية وحتى من بعض القوى العلمانية، بل اعتبروا أن أفكار الشيخ راشد هي التي ساهمت في نهضة تركيا من خلال حزب العدالة والتنمية الذي تبنى هذه الأفكار وترجمها إلى واقع ملموس حول تركيا من دولة مأزومة محليا وإقليميا ودوليا إلى أقوى دولة فاعلة في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم، وصارت نموذجا يمكن الاستفادة منه عربيا ودوليا. واعتبر أحد الأتراك أن الحاكم الحقيقي لتركيا هو راشد الغنوشي بأفكاره أما أردوغان فهو التلميذ الذكي الذي حوّل أفكار أستاذه إلى حقيقة حين آمن بها بروحه وعقله كما آمن معه جيل شاطره الرأي في ضرورة التغيير.
لماذا نجحت أفكار الغنوشي في تركيا ولم تنجح في تونس؟!
سؤال له ما يبرره على كلا الساحتين التركية والتونسية. فمن جهة نجد أن أفكار الغنوشي تلقى رواجا كبيرا داخل الساحة السياسية والفكرية في تركيا، ولها مؤيدون كثر يعتبرونها نواة جديدة في المشروع الإصلاحي التركي الذي انطلق بشكل فعال بداية من سنة 2002 تاريخ تأسيس حزب العدالة والتنمية وحتى وصوله إلى سدة الحكم.
ومن جهة أخرى نجد أن فكر الغنوشي الذي ولد في تونس وترعرع في الغربة بعيدا عن الوطن بسبب هيمنة قوى الاستبداد وتسلّط الدولة لا يعرفه التونسيون بالقدر الكافي، ولم يستوعبوا منهجه الإصلاحي بشكل واضح، بل تعرّض إلى هجمة شرسة من قبل بعض النخب السياسية ذات الآيدولوجيات المختلفة، واعتبروا أفكار الشيخ الغنوشي أفكارا رجعية ظلامية معادية للحداثة والتقدمية.
وقد تعرّض الغنوشي إلى هجمة شرسة من قبل بن علي ووسائل إعلامه المتحالفة معه من يساريين وعلمانيين وقوميين ممّن وجدوا الفرصة في شن حملات ممنهجة حاولت بكل الطرق أن تمنع تسرب هذا الفكر إلى الأجيال الصاعدة في تونس، بل تحول الغنوشي في عهد بن علي إلى رمز الإرهاب والرجعية والظلامية مما حرم شرائح كبيرة من المجتمع من الاطلاع على فكر هذا الرجل الذي قضى حياته في المنفى ينحت من عقله أفكارا كانت سببا في تنمية تركيا الجديدة، وحرمت منها تونس التي ما زالت إلى يومنا هذا تعيش حالة انتكاسة من جراء تلك النخب السياسية المهترئة التي لم تكن تؤمن لا بحرية التفكير ولا تعترف برجالات فكرها خصوصا إذا كانوا أصحاب مرجعية إسلامية.
الوعي السياسي والفكري في تركيا
لقد نجحت أفكار الغنوشي في تركيا لأن العقل السياسي التركي بمختلف تلوناته كان يعيش حالة من النضج والقابلية للتطور جعلته ينفتح على أفكار الغنوشي، ويرتوي من معينها، ويعتبرها أساس نهضته لأنها تعبر عن هويته التي حاولت الأحزاب العلمانية واليسارية طمسها والقضاء عليها، إلا أنهم فشلوا في ذلك بفضل نضج أبناء المشروع الإصلاحي التركي الذين كانت لديهم القابلية الكافية في الاستفادة من كل التجارب العالمية الناجحة، ورأوا في فكر الشيخ الغنوشي نمطا حداثيا وتقدميا يخرج العقل السياسي من دائرة التكلس الآيدولوجي الضيق إلى أفق الفكر الواسع الذي يبني قناعات إبداعية جديدة في دنيا السياسة وفي الفضاءات المتنوعة للمجتمع. نعم نجح الغنوشي في إقناع جيل كامل في تركيا، حتى أن كل كتبه ترجمت إلى اللغة التركية، وباتت موجودة في مكتبة كل شاب أو شابة من المنتمين إلى المشروع الإصلاحي التركي.
من جهة أخرى ظل فكر الشيخ الغنوشي في تونس غريبا عن الشعب التونسي رغم أنه ابن هذا الشعب. ومع الأسف، نقول أن أشد من يعادي فكر الغنوشي ويعمل ليلا ونهارا لتشويهه هم توانسة لم يتذوقوا طعم الموضوعية، ورفعوا شعارات كثيرة تسيء إلى الشيخ راشد وتعتبره “سفاحا وقاتلا للأرواح” . وهذا في الحقيقة يعكس الحالة السلبية التي وصل إليها العقل السياسي التونسي الذي صحرته ماكينة الاستبداد وأفرغته من كل المضامين الأخلاقية والموضوعية، كما ساهمت في ذلك مجموعات يسارية وعلمانية تحالفت مع الديكتاتورية لضرب الغنوشي وفكره وقدمته إلى الرأي العام التونسي في صورة سفاح وإرهابي ورجعي .
الغنوشي اليوم يكرّم في تركيا ويزداد أنصار أفكاره، بل تحول إلى حاكم لتركيا بأفكاره التي تبناها أردوغان تلميذه الوفي، في الآن نفسه نجد أن الغنوشي يساء له في تونس بلده ويتعرض إلى هجمة شرسة من أبناء بلده وينعتونه بأقذع النعوت التي تفتقد إلى أبسط الأخلاقيات السياسية والفكرية.
أفكار الغنوشي، الحاكم الفعلي لتركيا
لقد تحولت تركيا إلى الأرض الخصبة التي زُرِعت فيها أفكار الشيخ الغنوشي وترعرعت واشتدت، وباتت هي الحاكم الحقيقي للمشروع الإصلاحي التركي المتمثل في مشروع حزب العدالة والتنمية الذي أخذ على عاتقه الدفاع عن هوية الشعب التركي وتراثه الإسلامي، والدفاع أيضا عن قضايا الأمة العربية والإسلامية، والوقوف معها وحمايتها والمساهمة في نهضتها. في حين نجد أن العقل السياسي التونسي لم يقابل فكر الشيخ راشد إلا بالنقد الذي يفتقد إلى الموضوعية ورفضه فقط لأنه يبشر بنهضة أمة على أساس هويتها العربية والإسلامية. لقد حرمت ما يسمى بالنخبة التونسية قطاعا واسعا كبيرا من الشعب التونسي وخصوصا الشباب التونسي من أفكار الشيخ راشد الذي بات غريبا في وطنه تونس التي ولد فيها.
لعل أهم مفارقة بين انتشار أفكار الشيخ راشد في تركيا وبين عدم انتشارها في تونس يعود إلى كون النخبة السياسية التركية وصلت إلى حالة من النضج السياسي والالتزام الأخلاقي جعلها تُقبِل على أفكار الشيخ راشد وتستوعبها في مبادئها العامة التي تعد أسس النهضة التركية الحالية. بينما نجد النخبة التونسية ظلت تعيش حالة اهتراء واستلاب لا ترى في فكر الشيخ راشد إلا صورة تدميرية منافية للمشروع الحداثي التونسي مما يعكس جهل هذه النخبة وتبعيتها للفكر الفرنكفوني الرامي إلى استئصال هوية الشعب التونسي وخلق شخصية تونسية فاقدة لكل منظومة قيمية وأخلاقية.
صحيح أن حركة النهضة تمثل فكر الشيخ راشد، إلا أن هناك أيضا قطاعا من أبناء النهضة ما زالوا يجهلون فكر الشيخ راشد، ولم يستوعبوا أدبياته وأسسه مما يجعلنا نقول إن فكر راشد الغنوشي نجح في تركيا ولكنه تقهقهر ولم ينجح في التغلغل داخل أبناء الشعب التونسي، ربما بسبب عدم الاطلاع عليه أو بسبب عدم نضج العقل السياسي التونسي. لقد حكم الغنوشي تركيا بأفكاره وفشل في حكم تونس لأن الحكم الحقيقي أساسه الفكر وأردوغان تبنى أفكار الشيخ الغنوشي التي حولته إلى أكبر زعيم على وجه الأرض.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس